رام الله | مع دخول العدوان على قطاع غزة شهره الثاني، لا تزال جعبة إسرائيل فارغة من أيّ إنجازات عسكرية، بل تبدو مثقلة بالخسائر البشرية في صفوف جنود الاحتلال وضباطه وآلياته العسكرية، وذلّ مرير لن يُمحى، وسجلّ من المجازر الفاشية، وهزيمة عسكرية مدوّية ستُدرَّس في الأكاديميات والمعاهد لسنوات طويلة، بدءاً من عملية «طوفان الأقصى» التي قضت على «فرقة غزة» ومعسكراتها، وصولاً إلى حرب العصابات التي تستمرّ المقاومة في إظهار إبداعها فيها. وكما كان متوقّعاً، بدت المقاومة في القطاع مستعدّة هجومياً ودفاعياً لهذه المعركة، في حين لم تَجد إسرائيل أمامها، والحال هذه، سوى المدنيين لتنفيذ انتقامها الدموي بحقّهم، واسترداد جزء من ماء وجهها الذي أريقَ في 7 أكتوبر. والواقع أن دولة الاحتلال تدرك، في قرارة نفسها، منذ اليوم الأول، أنها غير قادرة على تحقيق الأهداف المعلَنة لعدوانها، وعلى رأسها القضاء على حركة «حماس» وتدمير موارد المقاومة وإمكاناتها. وبالنظر إلى إدراكها ذاك - لو لم تعترف به -، وصعوبة تحقيق إنجاز عسكري يمكن أن يمحو هزيمة «السبت الأسود»، فهي بدأت البحث عن صورة «نصر» عبر أساليب وخطط مختلفة، تتمحور حول مستقبل غزة.على أن غالبية هذه السيناريوات تبدو ساذجة وأقرب إلى الخَبل السياسي، كونها تنطلق من فرضية أن انتصار إسرائيل في حربها على غزة أمر مفروغ منه، وهو ما لا تدعمه أيّ من وقائع الميدان. إذ لا تزال المقاومة متحكّمة بمسار المواجهة، وقادرةً على تكبيد الاحتلال خسائر كبيرة، فضلاً عن أن الحساب الذي فتحته إسرائيل مع أهالي القطاع بحربها الوحشية هذه، لا يمكن أن يغلَق بسهولة. والظاهر أن تكرار الحديث الغربي عن غزة ما بعد الحرب، يُعدّ في أحد أوجهه حرباً نفسية ضدّ حركة «حماس» وحاضنتها، كونه ينطلق أولاً من هزيمة المقاومة باعتبارها متحقّقة سلفاً، فيما الواقع يقول إن حلفاء الأخيرة في المنطقة، وتحديداً «حزب الله»، أكدوا أنه من الممنوع هزم غزة، وأن «حماس» يجب أن تنتصر، وهو ما يعني أن أيّ خطر وجودي على الحركة سيدفع إلى إشعال حرب إقليمية طاحنة. ويُضاف إلى ما تَقدّم، أنّ إلحاح واشنطن على طرح هذا الملفّ، يهدف إلى توريط الدول العربية ودول الإقليم بل والعالم في عملية التخلّص من غزة، وتقديم «وصفة العلاج النهائي» إلى إسرائيل، من دون أن تتكلّف هي وحليفتها أيّ ثمن.
وكانت حكومة بنيامين نتنياهو قد أخرجت، منذ الأيام الأولى للمعركة، من أدراجها القديمة، خطّة تهجير سكّان غزة إلى سيناء، والتي تبدو الأفضل بالنسبة إليها، مُراهنةً على تمريرها عبر تنفيذ أبشع المجازر بحقّ المدنيين. لكن صمود الفلسطينيين، ووعيهم بما ترمي إليه إسرائيل من وراء دعوتها إيّاهم إلى الخروج من شمال القطاع، فضلاً عن الموقف المصري الحاسم في رفض التهجير، أفشل المشروع في بداياته، من دون أن يعني ذلك أنه لن يكون دوماً حاضراً في العقلية الإسرائيلية. من جهتها، وبينما أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل لارتكاب المذابح بحقّ أهالي القطاع، انصبّ جهد إدارة جو بايدن، عبر وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، على بحث الأفكار المرتبطة بما بعد الحرب، وهو ما دفع بلينكن إلى القيام بجولة إقليمية لبلورة خطّة لذلك، تحت عنوان عريض هو أنه «لا مستقبل لحركة حماس في غزة». وحول هذه النقطة تحديداً، كثّفت الإدارة الأميركية جهدها، ربّما لاقتناعها بأن آلة القتل والدمار الإسرائيلية لن تحقّق أيّ إنجاز في غزة، وبالتالي، يصبح من الأفضل محاولة إنجاز الأهداف سياسيّاً أو عبر الضغوط والابتزاز بمواجهة الأطراف التي يمكن أن تسهم في بلوغ تلك الأهداف، فضلاً عن أن الأميركيين لمسوا، منذ بداية العدوان، غياب أيّ خطّة لدى إسرائيل في شأن غزة ومستقبلها بعد الحرب.
غالبية السيناريوات تبدو أقرب إلى الخَبل السياسي، كونها تنطلق من فرضية أن انتصار إسرائيل في حربها على غزة أمر مفروغ منه


أما الدول الأوروبية، فهي تشارك الإدارة الأميركية جهودها في هذا الملفّ، إذ ذكرت مصادر صحافية فلسطينية محلّية أن السلطة الفلسطينية ستشارك، في الأيام القليلة المقبلة، في اجتماع سرّي في جنيف يُعقد بهدف بحث مستقبل غزة ما بعد الحرب. ولعلّ آخر فصول الموقف الأميركي، الرافض لمشروع تهجير سكان غزة، وعودة إسرائيل لاحتلال القطاع بعد انتهاء الحرب، والمُطالب بعدم فرض حصار على القطاع، أو اقتطاع أجزاء منه، يهدف إلى كسْب موافقة السلطة والدول العربية على لعب دور فيه، تحت عنوان اجتثاث «حماس». إذ قال بلينكن، أمس: «علينا إنهاء ما يحدث في أسرع وقت ووضع الشروط المناسبة لذلك بمساعدة الأمم المتحدة، لكن لا يمكن أن تبقى حماس مسيطرة على غزة»، معتبراً أن «القطاع قد يكون بحاجة إلى مرحلة انتقالية بعد الصراع». لعلّ تجربة المرحلة الانتقالية في «اتفاق أوسلو»، والتي كانت محدّدة بخمس سنوات تفضي إلى إقامة الدولة، فيما هي لا تزال مستمرّة منذ عام 1993، تمثّل أوضح نموذج ممّا تتطلّع إليه واشنطن.
ومع عدم تفضيل الولايات المتحدة سيناريو التهجير وعودة إسرائيل إلى غزة، رجّحت وسائل إعلام أميركية أن يُصار إلى نشر قوّة متعدّدة الجنسيات يُحتمل أن تضمّ قوات أميركية، وهو ما نفته واشنطن لاحقاً واستبعدته، معربةً عن تفضيلها سيناريو عودة «سلطة فلسطينية فاعلة ومتجدّدة» تتولّى حكم القطاع، من دون توضيح ما إذا كانت تقصد السلطة الفلسطينية، أو سلطة جديدة مختلفة. وعلى أيّ حال، فإن هذا السيناريو سيكون مرفوصاً شعبياً، على اعتبار أن تلك السلطة سيُنظر إليها على أنها «سلطة فيشي» أو ما يشبه «جيش لبنان الجنوبي». أمّا الحديث الأكثر سذاجة، والذي جرى تداوله في إسرائيل في الأيام الماضية وطَرَحه وزير الخارجية السابق والقيادي في حزب «إسرائيل بيتنا»، داني إيالون، فهو السعي إلى تكرار سيناريو «بيروت 1982»، عبر إخراج قادة حركة «حماس» من القطاع إلى دولة أخرى، كما رُحّل قادة «منظمة التحرير» إلى تونس، وهو ما يبدو مستحيل التحقّق حالياً، ولا سيما أن الفلسطينيين يقاتلون على أرضهم وليس في المنافي أو في دول الطوق. والأهمّ من ذلك، هو موقف «حماس» والمقاومة من كلّ تلك السيناريوات، والذي ينطلق من تأكيد أن إدارة القطاع شأن فلسطيني خاص، وأن أيّ قوّة لن تنجح في تغيير الواقع أو فرض إرادتها على غزة.