فرضت «أزمة تكساس»، المتوالية فصولها بين سلطات الولاية والحكومة الفدرالية، نفسها على المشهد الداخلي في الولايات المتحدة، بعدما أشعلها ملفّ المهاجرين على الحدود المكسيكية - الأميركية، والذين تشير التقديرات إلى عبور قرابة عشرة آلاف منهم يومياً على طول الحدود البالغة نحو 3141 كيلومتراً، تشمل حدود الولاية الجنوبية، إضافة إلى حدود ولايات أخرى، كنيومكسيكو وكاليفورنيا، حذت بدورها حذو تكساس، المحسوبة على الحزب الجمهوري. وتتهم سلطات الولاية إدارة الرئيس جو بايدن برفض أداء واجباتها المتمثّلة في حماية أمن الحدود، ما اضطرّ الأولى إلى اللجوء إلى معالجة الأزمة بنفسها، بنقلها، مثلاً، عشرات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين من عدد من الولايات الجنوبية، الموالية تقليدياً للجمهوريين، في اتجاه مدن محسوبة على الحزب الديمقراطي في شمال البلاد، كنيويورك، التي تضافرت حول القضية، معلنةً دعمها حقوق المهاجرين، أسوةً بموقف الحكومة الفدرالية.

سجال سياسي ودستوري
أخذ النزاع السياسي والدستوري، أبعاداً عسكرية في الأيام الأخيرة، مع اتهام حاكم ولاية تكساس، غريغ أبوت، إدارة بايدن بـ»خرق الاتفاق بين الدولة الأميركية والولايات، وتجاهُل القوانين الفدرالية التي تنص على احتجاز المهاجرين غير الشرعيين»، وتسلّحه بالنص الدستوري الذي يمنح السلطات المحلية في الولايات، أو قوات «الحرس الوطني»، الحقّ في فرض بعض الإجراءات الاستثنائية لأغراض «الدفاع عن النفس» في حال تعرّضها لـ»غزو». ومن جملة ما أقدم عليه أبوت لمنع ما يسميه «غزو» المهاجرين لولايته، وبخاصة عبر معبر «إيغل باس»، الذي يُعد أحد أكبر المعابر الحدودية هناك، هو الإيعاز إلى أفراد تلك القوات ببناء حواجز حدودية، ووضع أسلاك شائكة ضخمة على الحدود، إضافةً إلى منع أيّ عناصر أو مسؤولين أمنيين وإداريين تابعين للحكومة المركزية من الدخول إلى تلك النقاط الحدودية، بدعوى تساهلهم تجاه المهاجرين.
من جهتها، عمدت إدارة بايدن إلى الطعن في قرارات «الولايات المتمرّدة»، وفي طليعتها تكساس»، لدى «المحكمة العليا»، وذلك استناداً إلى نصوص دستورية توكل إلى السلطات الفدرالية حصراً حقّ التعامل مع ملف تنظيم الهجرة، وأمن الحدود، وتحظر، في الوقت نفسه، على الولايات استعمال صلاحيات «الانخراط في الحرب» من دون موافقة الكونغرس، ولا سيما في الحالات التي لا ينطبق عليها وقوع «العدوان» أو «الغزو». وبالفعل، جاء حكم المحكمة في صالح بايدن، بحيث مكّن سلطات واشنطن من إزالة الحواجز على حدود ولاية تكساس مع المكسيك. ومع ذلك، لم ينص القرار الصادر بصراحة على دعوة سلطات الولاية إلى وقف بناء الأسوار والحواجز، أو تسهيل عمل الأجهزة الأمنية الفدرالية وعدم عرقلته، وهو أمر أبقى حلّ الأزمة، وفق مراقبين، أسير الضبابية، وجعل خطوة المحكمة أقرب إلى محاولة لحفظ التوازن بين السلطات المركزية، وتلك المحلية أو الإقليمية.

صراع ديموقراطي - جمهوري على عتبة الانتخابات
يخفي «صراع الصلاحيات» هذا، صراعاً آخر لا يقلّ شدّة بين الجمهوريين والديمقراطيين على عتبة الانتخابات، وجوهره سياسات إدارة بايدن حيال ملفّ اللجوء، علماً أن الأخير بادر، وفور توليه الرئاسة، إلى إجراء الكثير من التعديلات على قوانين وسياسات الهجرة، بما شمل تسهيلات تسمح بدخول المهاجرين غير الشرعيين من طالبي اللجوء إلى البلاد، والإقامة بصورة نظامية فيها، في انتظار البتّ في طلباتهم، علماً أن ذلك يستغرق في العادة سنوات. وعلى وقع اتّساع نطاق الاستقطاب الحزبي قبيل الانتخابات الرئاسية، وفي مقابل دفع بعض «صقور» النواب الديمقراطيين إلى إخضاع قوات الحرس الوطني في ولاية تكساس، لإمرة الرئيس، بوصف هذا الإجراء جزءاً من الصلاحيات الاستثنائية المعطاة للرئاسة في حالات الطوارئ، يميل التيار المتشدّد في الحزب الجمهوري، المؤيد للرئيس السابق، دونالد ترامب، إلى عرقلة أيّ توافقات بين الحزبين في الكونغرس حول سياسة الهجرة وأمن الحدود، عبر «تكتيكات سياسية» مختلفة، أبرزها اشتراط المشرّعين الجمهوريين انتزاع تغييرات في شأن تلك السياسة من قِبل الإدارة، لتمرير موافقتهم على المساعدات المتوقفة لكل من أوكرانيا وإسرائيل. وبحسب وسائل إعلام أميركية، فإن المعسكر الجمهوري يجهد من أجل منع الإدارة الديمقراطية من تسجيل أيّ نصر توظّف فيه ملف الهجرة انتخابياً، خصوصاً أن نحو 90% من الناخبين الجمهوريين، وتحديداً في الولايات الحدودية، يعارضون توجهات حكومتهم على هذا الصعيد، وفق ما تظهره استطلاعات الرأي. لا بل إن موجة الامتعاض من كيفية تعاطي بايدن مع ملف الهجرة تنسحب على القاعدة الديمقراطية، بنسبة تتجاوز الـ 60%.

تكساس: من هنا يبدأ مقص التقسيم؟
يرى مراقبون أن ما تشهده الولايات المتحدة حالياً حول ملفّ الهجرة، يذكّر بمحطات تاريخية حرجة، راج فيها «السيناريو التقسيمي»، بدءاً بالحرب الأهلية التي انطلقت شرارتها على خلفية تباين مواقف الولايات الأميركية من مسألة «العبودية»، وليس انتهاءً بأزمة انتخابات عام 2020 ونتائجها التي أفرزت انقساماً بين الأميركيين لا تزال تبعاته مستمرة حتى اليوم. وتحذّر مجلة «فورين بوليسي» من خطورة الخطاب العنصري لبعض قيادات الحزب الجمهوري، لافتة إلى رمزية تكساس في ما يخص التصورات الرائجة حول تقسيم الولايات المتحدة في العقل السياسي الأميركي، والتي اكتسبت زخماً خلال السنوات القليلة الماضية مع تنامي «تيار الترامبية» في أوساط الجمهوريين. وتشير إلى تزايد المؤشرات حول وجود استعداد لدى قطاع واسع من المواطنين الأميركيين، للتصادم مع مسؤولين منتخبين عبر أساليب عنفية لمجرد الاختلاف في الرأي، كما جرى خلال أحداث اقتحام الكونغرس عقب انتخابات 2020، فضلاً عن تصريحات صادرة عن عدد من المشرّعين، تحمل نفساً تشكيكياً في «النظام السياسي الأميركي»، ومؤسساته، ولعل أبرزها للسيناتور الجمهوري، تيد كروز، عن ولاية تكساس، حين هدّد بإعلان انفصال الولاية «في حال قام الديمقراطيون بتدمير البلاد».
السيناريو الأقلّ ترجيحاً، والأكثر إثارة للقلق، هو أن الانقسامات القائمة بين الأميركيين ستتعزّز مع مرور الوقت


في المقابل، يقلّل محللون أميركيون من جدية ما يُشاع عن إمكانية تحقق «سيناريو الانفصال» بين الولايات الأميركية. وفي هذا الإطار، يقرّ المفكر السياسي الأميركي المخضرم، ستيفن والت، بحقيقة وجود تيار داخل الولايات المتحدة، يحمل بشكل أو بآخر توجّهات انفصالية، موضحاً في الوقت نفسه أن «التيار الانفصالي الحديث، لا يتطلع إلى الانعتاق من الصيغة الفدرالية السائدة، بقدر ما يسعى إلى عرقلة السياسات أو المبادرات الحكومية التي لا تروق له»، عارضاً أمثلة على ذلك من قبيل تمرد ولاية كاليفورنيا على بعض الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأميركية السابقة في قضية المناخ. ومع هذا، يؤكد والت وجود بعض المخاطر المترتّبة على الخطاب التقسيمي المتّبع من قِبل بعض السياسيين في بلاده، معتبراً أنّ «حالة الاستقطاب الحزبي ومساعي العرقلة التي تصاحبها من قبِل كل طرف، من شأنها أن تقلّص فرص الحكومة في اتّخاذ إجراءات سريعة وفعّالة في مجالات السياسة الحاسمة، وتجعل إمكانية قيامها بتلك المهام مستحيلة». ويقدّر والت أن «السيناريو الأقلّ ترجيحاً، والأكثر إثارة للقلق، هو أن الانقسامات القائمة (بين الأميركيين) ستتعزّز مع مرور الوقت، وأن الحديث الفضفاض اليوم عن الانفصال سيبدأ باكتساب زخم سياسي حقيقي» في لحظة معيّنة من تفاقم تلك الانقسامات.