هواء، ماء، نار وريشة خفيفة من حرير تدغدغ الرغبة لإبقائها مُتربصة مُستثارة. اللمس، البصر، السمع، الشم والتذوّق باتوا حواسّ استهلاكية، بل ديكتاتورية، من شأنهم تعويم منسوب الاشتهاء وشحنه من دون إشباعه مهما لهث اللسان ملحّاً على طلبه. الرغبة في حالة إرجاء دائمة: إن تحققت تخبو وتنطفئ، فيخصى وجود الراغب. العالم من نسب «الحكماء السبعة» يعلم كل هذه الأسرار ولا ينفكّ عن تقديم نفسه كسوبرماركت. عدا عن رهان العالم - الرابح دوماً - على ذلك النقص (الميتافيزيقي) الذي لا يمتلئ، فقد مسخ الواقع إلى ما يشبه الفاصل الإعلانيّ. أصبح شراب الكوكاكولا يقدَّم بداعي العطش بيد أن الكولا لا يروي الظمأ، بل يزيده.
تصميم فرنسوا الدويهي

أنا داخل هذه السوبرماركت وكذلك أنت. ماذا تريد؟ جمجمة أينشتاين؟ معروضة للبيع. صورة بحانب مارلين مونرو؟ تعال إلى متحف الشمع. هوية جديدة؟ حمّل تطبيق فايسبوك. مهما يخطر لك، وسيخطر لكَ الكثير، سرعان ما ستجده منتصباً أمامك، يبرق ويلمع وينتظرك، وكأن فانوساً سحرياً سقط بين يديك وهو جاهز ليقدم لك ما تريد. ستبقى الرغبة متّقدة، ملتهبة، مشتعلة، لكنك لا ترغب حقاً في القبض على ما تريده لأن التجوّل بين السلع وإمعان النظر إلى الرفوف مسلٍّ وعصري ويثير البهجة، هكذا تصحّ مقولة «أنا أرغب، إذاً أنا موجود» أن تكون الكوجيتو الجديد.
بعضهم ذهب بعيداً وأرتأى أن يكون موضع الشهوة. فإذا كان الوشم لغة الجسد الفصيحة، فقد حدث ذات مرة أن ذاع وشم الباركود على الرقبة وتحولت إلى صيحة رائجة؛ هناك من قرر أن يتماهى مع السلعة، أن يشبه السلعة، بل أن يكون سلعة. في الإقامة الجبرية داخل السوبرماركت الكبيرة التي نسكنها، كل السلع معروضة للطلب والبيع. الرقبة التي يتسمرّ عليها الرأس مسلّعة أيضاً. لنا حديث، في عدد إنّما هذا، عن تمظهر العالم كسوق لا ينضب، وعن الهراء الذي نمارسه تماشياً مع هوية العصر، وعن بعض التجارب والأفكار التي قد تبدو، للوهلة الأولى، يوتوبيات حالمة ولكنها تبقى رغبات ضرورية للعيش.