غالباً ما يفتّش الأدبُ عن مناطق غير مأهولة حتى يولّد ذاته ويحقّقها. سيرة الفنانين تشهد على الانهماك الدؤوب في اكتشاف ثقوبٍ مفتوحةٍ لم يملأها التاريخ لا بالدم ولا بأكاليل الورود حتى يرووا حدثاً لم يحدث، وربما خالوا أنّه لن يحدث، فأحدثوه بواسطة الفنّ، هذا إن عرّفنا الأخير بأنّه صناعة المستحيل، أي تحقيق ما لا يتحقّق. لكن حاضرنا حريصٌ على تنبيهنا إلى أن كلَّ ما هو خيالي، الذي يبدو أحياناً حقيقيّاً أكثر من الحقيقة نفسها، قد أخذ أكثر أشكاله سموّاً. حدث ذلك في فلسطين نهار 7 أكتوبر، حين قرّر بضعة رجال أن يقولوا للعالم إن أفلام الأبطال الخارقين، من رامبو إلى سوبرمان، هشّة أكثر من الكرتون، وساذجة، وتحتاج إلى تعديلاتٍ جمّة حتى تعني لهم شيئاً. انقلبت الأدوار رأساً على عقب منذ ذلك.

اختلط الخيالي بالواقعي، حتى لم يعد ثمّة مجالٌ للفصل بينهما، ولم يعد من الممكن التفريقُ بين الفنان والمقاوم. الاثنان يخلقان فضاءات الملحمة والأسطورة، مع فارق إضافي يُحسب للثاني، إذ هو يعيش ملحمته وأسطورته، ولكن في الحالتين، هناك نزوع جامح للخروج عن المألوف، وإعادة صياغة الحدث بأسلوبية تُلامس الشعريةَ حتى يصعب التفريق بين الاستعراض بوصفه دهشةً عمياء إزاء المشهد، وبين العمل الفني الذي يقترب من الإعجاز. ثمّة أحداثٌ إن رُويت بعد قرنٍ من الزمن ستجبر المرء على الوقوف حائراً متسائلاً: «أطباء في مستشفى تعرّض للقصف للتوّ، يظهرون في مؤتمر صحافيّ وسط الجثامين، يقفون على المنبر، بينما الجثث مكفّنة مصطفّة بعضها إلى جنب بعض على الأرض، هل هذا حقيقي أم مشهد مسرحي؟ هل كانوا أشخاصاً حقيقيين أم ممثلين يؤدّون أدوارهم؟». إن قرّرنا نزعَ الطابع الملحميّ عما حدث وعما يحدث، والإذعان إلى البداهة والتبسيط، فستكون الأسئلة كثيرة وستُلقي بثقلها علينا: ما هي الحدود الفاصلة التي تصون الحدث وتحافظ على «تمثيله» كشكل من أشكال المحاكاة وتمنعه من التحقيق؟ ماذا لو كان السائر أثناء نومه يعرف طريقه أكثر مما لو كان مستيقظاً؟ يعني، كيف يمكن لحفلةٍ تستعين بمؤثراتٍ صوتية وبصرية، من مفرقعات نارية إلى ألاعيب ضوء بهدف تعويم المحتفلين بالبهرجة ولصقل شعورهم عالياً حتى يصلوا إلى ما يعرّفونه بـ«التعالي»، أن تهبط عليهم فرقةٌ من كتائب القسام بالمظلات، في حين أنّ المحتفلين ظنّوا للوهلة الأولى أن هذا جزءٌ من العرض. أقول: إلى جانب «فلانور» بنيامن، و«داندي» بودلير، و«يوبرماخ» نيتشه، هناك المقاوم، وهو بدوره تكريسٌ لأقصى درجات الراديكاليّة، مبدعٌ للفنّ بأكثر أشكاله تكثيفاً. والمقاومة هنا بالدرجة الأولى نمط حياة تجريبي مُعاش، برهنت تجريبيّتها على أن في وسعها حذف المستحيل من معجم التاريخ وإعادة تشكيل المعنى وكتابته من جديد. هو وجهٌ لم يعتد التاريخ رؤيته كثيراً وليس لأنّه ملثمٌ. لو طُرح على رينيه ماغريت سؤال: «إن كان هناك عالمٌ موازٍ لهذا العالم، فماذا كنت ستفعل؟» كان على الأرجح سيرسم شخصين ملثّمين يهيمان في السماء ويقبلان بعضهما بعضاً. ولكن مقاوماً من القسام، كان قد خطّط طويلاً وانتظر أن يحين موعد السؤال، فعل ما لم يكن في الخاطر وأخبرنا جوابَه: اقتحم حفل «باراليل يونيفرسو» الذي أُقيم في غلاف غزة في مستوطنة راعيم، محقّقاً ما ظنناه خيالياً، مقدّماً لنا درساً في مفاهيم تجريدية تخصّ «التعالي» و«التجاوزية». فما خلناه مساراً ينبثق من تحت إلى فوق تبيّن أنه قد يكون مقلوباً: من فوق إلى تحت، بالهبوط من السماء لاستعادة الأرض. يحلّق المقاوم، «يتعالى»، يتجاوز كلَّ جدران الفصل والحواجز الأسمنتية العالية المدعومة بأجود أنواع الكاميرات، وأخبثها، وأكثرها دناءة بطائرة من ورق.
كان كل شيء على ما يرام عند قبيلة نوفا قبل الساعة السادسة والنصف من صباح 7 أكتوبر. وقبيلة «نوفا» هي أشبه بنادٍ أو جماعة تنتمي إلى موسيقى إلكترونية معروفة بالـ«ساي ترانس» (Psytrance)، وهي فرع مشتقّ من الموسيقى الإلكترونية «ترانس»، ترتبط مجموعة أفرادها بقيمٍ وأفكارٍ مشتركة من بينها السلام والحبّ، وقد دعت قبيلة نوفا مهرجان «باراليل يونيفرسو» (Parallel universo) إلى إقامة حفلة «ساي ترانس» في مستوطنة راعيم. قليلة هي الفيديوهات التي وصلت إلينا مظهرةً ذلك الحفل، ولكنّ مقطعاً مصوراً انتشر كثيراً منذ أول يوم من عملية «طوفان الأقصى» قد نقل إلينا قليلاً مما حدث؛ مجموعة من «الهيبسترز» يركضون هرباً في الصحراء، هلِعين يبحثون لأنفسهم عن مخبأ يحتمون فيه أو عن سيارة للفرار بعيداً. المقطع يحيلنا تلقائياً إلى مشهدٍ من فيلم «أبوكاليبس ناو» حيث الجنود الأميركيون يهربون لإنقاذ حياتهم. ثلاثة، أربعة، خمسة، يتكدّسون بعضهم مع بعض، فوق بعض، في سيارةٍ واحدة وينطلقون بعيداً. تشترك حكايات الطوفان في أن النجاةَ من فيضان مياهه شبه مستحيلة، فالطوفان إن حدث من شأنه أن يُغرق الجميع، فمهما كان الجري سريعاً، يبقى تدفّق المياه أسرع من حركة الأقدام. طوفانٌ وسط الصحراء؟ ولمَ لا؟ أليست الصحراء في أفلام الويسترن رمزاً دالّاً على الأصالة والتاريخ العريق؟ كان طوفاناً وسط الصحراء ولذلك فقد سُمّي «طوفان الأقصى»، مسألة حدوثه قد تُشبه قصص الظهور، ولكنّ حقيقة حدوثه ليست بمنأى عن العقل، كما أنّ تصديقها ليس مقذوفاً في ملعب الإيمان، فكل شيء موثّق بالصوت والصورة.
فما دام الأمر هو تجريد المجاز من استحالته والقبض على الدلالة وتأصيلها وجوديّاً، فلمَ لا تكون الحفلة معبراً للانتقال من قحطِ الاحتلال وظلمته إلى نسائم الحرية وشمس التحرير؟ يبدو الأمر كأنّنا ضمن مايتركس، ويبدو أن كتائب القسام تُتقن جيداً لغةَ الرموز وتُجيد تفكيكها، وبناءها، وصياغة دلالاتها. فـ«باراليل يونيفرسو» تعني «العالم الموازي»، والعالم الموازي هو نظريّة تقول بأن ثمّة كوناً افتراضياً غير الكون الذي نعيش فيه، يتجانس ويتعايش مع كوننا، وقد يبالغ بعضهم في تأويل النظرية، فيُبلورونها وفقاً لما تقتضي رغباتهم، فيقولون إن للمرء شبيهاً يعيش على الضفة الأخرى، في العالم الموازي، يمارس ما يتمنّى ممارسته في واقعه الحقيقي.
على موقع «ريديت» يكتب حساب إلكتروني يحمل اسم (psychological-arm-22) التالي: «كنت هناك، في حفلة «باراليل يونيفرسو» عندما بدأت الأحداث. توقّفت الموسيقى. ظنّنا أن ما ننظر إليه في السماء هو مفرقعات نارية، لكن تبيّن أنها نيران قادمة من المظلّيين. عندما بدأت الأحداث بالتصاعد كانت الساعة السابعة صباحاً تقريباً، ما يعني أن غالبية المحتفلين كانوا قد تناولوا جرعات من الأسيد قبل ساعة من الزمن، عند طلوع الفجر. فتاة يابانية اسمها غو، وهي منسّقة موسيقى، اختُطفت مع آخرين غيرها. كنت مع صديقي وقد لذنا بالفرار، كان يقود السيارة بشكلٍ رزين، ذلك أنّنا لم نكن قد تناولنا الأسيد بعد، فاستطعنا أن ننجو قبل خمس أو عشر دقائق من احتدام الأحداث وقبل انتشار النار الكثيف». حسناً إذاً، قال القسام فليكن «العالم الموازي» هذا بكل ما يعنيه عالمَنا الجديد، ولتكن السادسة والنصف صباحاً فجرنا الجديد.
في عالم حقيقي أصلاً، والحقيقي كما نألفه خاضع بالضرورة إلى المنطقي مهما كان المنطق مركّباً وقابلاً للتشكيل، إن إقامة حفلة في غلاف غزة، أي على حدودٍ شفيفة مع ما يعرف «السجن الكبير» (مع التحفّظ على التعبير، لأنّ السجن تُوجده السلطة لمعاقبة من يستحق العقاب) هو محض غباء، في حال قررنا التكلم بلغة المنطق، وهي من دون شكّ، وبكل اللغات، إهانةٌ ساحقةٌ للإنسانية، هذا إذا اتفقنا على أن رفع صوت الموسيقى في مراسم التشييع يُعدّ ابتهاجاً بالجريمة، وبالتالي مخالفة فاحشة بحق الإنسانية. لكن لقبيلة نوفا، كما للجمهور العالمي للـ«ساي ترانس»، رأياً مختلفاً. باستثناء تلك الحجة الهزيلة التي تفيد بأنّ إسرائيل كانت دائماً ملاذاً آمناً لمجتمع الـ«ساي ترانس» فلا حجة أخرى لديهم. مواضيع مثل الحرب والسلم، الحرب والحرب، المستعمِر والمستعمَر، الجلاد والضحية، المكشوف والمخبوء، كلها ترنو إلى العالم الأرضي – الواقعي - الذي يريدون غضّ النظر عنه و «التعالي» عليه. أقيم حفل «يونيفرسال باراليلو» تحت شعار «الحب والسلام»، وهما، أي الحب والسلام، السمتان الأكثر تفضيلاً عند هذا الجمهور الذي يتبجّح بهما دائماً. يحيلنا هذا إلى استراق النظر من كثب إلى ملامح هذه الثقافة العصرية المسماة «ساي ترانس» التي تنشُد الحب والسلام في مستوطنات بناها غُزاة لا يولدون في زمن السلم ويدقّون المسامير في عروق كل من ينادي بالحب، وإلى التمعّن في ملامح روّادها؛ أي «الهيبسترز»، وإلى «الرايف» وهو الاحتفال الذي يجسّد رحلة «الانتقال» من الواقعي الزائف، والمدنّس إلى الروحي، اللامرئي، المقدّس. و«الرايف» بوصفه طقساً احتفالياً يمكن ترجمة مفردته بـ«الانتشاء الكلّي»، فالمعنى اللفظي في هذي الحالة قاصر، إذ يعني الهذر أو الهذيان، في حين أن المقصود من الـ«رايف» والمأمول منه، هو الوصول إلى النشوة القصوى، والحال أنّ الهذرَ أو الهلوسةَ يندرجان في الحالة المرجوّة.
يعزو روبن سيلفان، وهو مرشد روحي، مختصّ في موسيقى الترانس ويحمل شهادة دكتوراه في الدراسات الدينية، ثقافةَ الـ«رايف» (Rave) إلى ردّة فعل على «علمانية» العصر الحديث. العلمانية عند سيلفان تعني العقلانية والتجرّد من البُعد الروحي، والـ«رايف» بالنسبة إليه هو نتيجة الابتعاد عن «الروحاني»، هو تعويض عن الخواء الدامغ في النفوس وهروب من فخّ المادية التي يفرضها العصر الحديث ولجمٌ لنزعة الفردانية عبر الاشتراك مع الآخرين في معتقدات كونية، وممارستها عبر إطلاق العنان للمشاعر، والتخلّي عن رقابة العقل ووظائفه، والاندماج سلميّاً وبحبٍ مع الآخرين. يكتب سيلفان في مقالته «الأبعاد الروحية لثقافة الرايف»: «بالنسبة إلى الآلاف من الذين يشاركون في الرايف في كل أنحاء العالم، يُعدّ الـ«رايف» مصدرهم الروحي الأوّل، وهو أقرب ما يكون إلى الديانة بالنسبة إليهم». في دراسةٍ متعمّقة تطال هذه الثقافة، يكتب جوناثان واينل ورقةً بحثيةً بعنوان «الشامانية المتفشية: نحو فلسفة تكنو-شامانية للموسيقى الإلكترونية»، مفصّلاً هذا الطقس (الـ«رايف»)، راصداً عناصره، ومعقّباً على نسقه من حيث الشكل والمضمون. يقابل واينل منسق الموسيقى (دي جاي) بالشامان، والأخير هو بمنزلة الشافي، طبيب الأمراض التي تمسّ الروح، وهو الوسيط بين العالم الحسّي والعالم الروحي. على أن الشامان هو مقام من مقامات القبائل، إذ يشير واينل إلى التقاطع الحاد بين مجتمع الرايف وبنية القبائل، فهما يشتركان في الرقص، وإعادة بعث الروح الجماعية، وحسّ التعاضد المفقود، فـ«الرايف»، وفقاً لتعريفه، «هروب سلس، يؤمّن مخرجاً من عالم شديد التعقيد، ويزوّد المحتفل بـ«الرايف» بالنشوةٍ ويجعله يختبر مشاعرَ غير مألوفة». منسق الموسيقى هو بمنزلة شامان إذن، والـ«رايف» كطقسٍ مقام هو حيّز يشبه المطهَر من ناحية الاغتسال من لوثة اليومي، والحسي، والحقيقي، للاقتراب من الجليل والمواءمة معه. يلتحق الـ«رايف» إذن بما يسمّى حركة «العصر الحديث» (new age)، وهي حركة واسعة النطاق ومتعددة الاتجاهات، تضمّ أفكاراً ومعتقدات ونزعات فلسفية وروحية متنوعة، غير أنّها تصب جميعها في غايةٍ واحدة، وهي خلاص الإنسان من براثن الواقع. لقد أشار عدد من المنظّرين والفلاسفة الذين نقدوا الرأسمالية إلى هذه النقطة تحديداً: كيف تفوز بالأمل في عالم لا يبدو الأمل فيه مرئياً ولا حتى ممكناً؟ كيف تحوز على الخلاص في عالم تسيّره أنظمة حديدية وتديره آلة؟ وهذه مسائل باتت قديمة نسبياً، طُرحت في الستينيات من القرن الماضي، وقد كانت هناك تجارب حملت نتائج متفاوتة. يبقى أن هذه الحركات الثقافوية بمعظمها، خصوصاً تلك التي نشأت في بداية التسعينيات، المجبولة ماهيتها بمزيج من بعض الحكايات الأسطورية، وبضع ممارسات إيزوتيريكية ونتف من التأويلات الدينية، طارحةً نفسها على أنّها مجانية وغير غرضية\نفعية ويونفرسالية، فقط لأنّها بطبيعتها يونيفرسالية، هي الوجهة الأخرى لقساوة العالم الذي يتبرّمون منه. وهي الشكل الثقافي الذي يريده السياسي، الذي يدّعون أن لا صلة تربطهم به، أن يطوف وأن يستشري، لأنّها تمثيل حقيقي، مهما جاء مستتراً، لقباحة الخنوع وفظاعة القطيعة مع قضايا العالم، ما يعني أنّها تقمص للفردانية التي يدّعون أنهم ينقلبون عليها بالدرجة الأولى، ثم هي محاكاة طبيعية للوعي الزائف الذي سبق أن عرّفناه بالمنطق الغبيّ في الدرجة الثانية. لقد قلنا إنّ التجارب مختلفة، ولا يمكن حصرها جميعها في خانةٍ واحدة، حتى إن كانت مصنّفة برمّتها في تيار ما يسمى «العصر الحديث». فالكلام عن الـ«رايف» يختلف عن الكلام حول وودستوك، مثلما أن الكلام عن الهيبيز يختلف عن الكلام حيال الهيبسترز. لقد خصص هانتر طومسون الجزءَ الثاني من روايته «الخوف والرعب في لاس فيغاس» ليصوّب سهامه على الحركات المضادة التي برزت في أميركا في مطلع السبعينيات. انتقد هانتر طومسون الهيبيين الذين بقوا هيبيين بعد انتهاء حقبة الهيبيز، ذلك أنّهم شكل بلا مضمون، مفردة من دون سياق، طريدة يسهل اصطيادها، وعاء فارغ تتلهّف شركات الأزياء وشركات الإنتاج الموسيقية والسينمائية لملئه بما يفرضه ذلك من تسليع وترويج للصورة التي يظهرون عليها، وللموضة التي يتّبعونها، كل ذلك لمراكمة الأرباح وكسب الأموال من ورائهم. والحال هذه، فإنّ ثقافة الهيبسترز ما هي سوى امتداد لحالة الاستعراض تلك، ويبدو أنّهم يجهلون التاريخ مثلما يجهلون مسائل الحاضر، فلا يدركون أنّ الهيبيّة التي يستمدّون منها أزياءهم وشعاراتهم، كانت أولاً وأخيراً صيحة سياسية، ولو بدت - أو كانت - ناعمة، وغير راديكالية، لكنها في المقام الأول لم تكن بحثاً عن خلاصٍ فرديّ سقيم. إن قبيلة نوفا التي أقامت الحفل في راعيم تعطينا مثالاً واضحاً عن ثقافة عصرية تلوك إرث غيرها وتُعيد تدويره من جديد، مقدمةً نفسها على أنّها روح العصر. لا يحضرنا هنا سوى التكلّم على ملمح المراهق المعاصر، الهيبستر أو ذلك الكائن الهجين الذي يتمثل بالرواقيين ويتبع تعاليمهم كالتلميذ النجيب في حقبة العولمة والعالمية. نقول إن المراهق المعاصر، الهيبستر، رواقي لأن الرواقية ليست مستشرية في عيادات اللايف كوتش وفي نصائح الوعاظ فقط، بل إنها تتمظهر كدليلٍ سياحي يقدم لزائره المعرفة المطلوبة بالحكمة، التي تُستقى من التعمق بالشخصي، وتبجل التجريد، وتحث على الانعتاق من «الخارجي» والعناية عوضاً عن ذلك بالروحي المفقود. إن الشامان، الذي رآه واينل أنه صورة تتجلى في منسق الموسيقى، لا يختلف عن إيبيكتيتوس. مثل أن المخدر كعنصرٍ أساسيّ في الـ«رايف»، والذي يسهم في خلخلة الحواس وتفتحها، ويدفع نحو «التعالي» على وقع موسيقى إلكترونية مليئة بأصوات مكابح السيارات، وتحطم الزجاج، وصديد المحركات (الهيبسترز على نقيض المجتمع الصناعي لكنهم في الآن نفسه، متلقون سلبيون لكل ما ينتجه المجتمع الصناعي) لا يختلف عن كتابه «النصائح»، في إن تجاوز «ما هو من غير الممكن تغييره» وجب صرف النظر عنه، والتصالح مع فكرة العجز عن تقويضه، ما يعني الهروب منه ولو كان أفق الوجهة هو المجهول الغامض. فالهيبسترز، بما هي طفرة رأسمالية، فإن رواقيتهم تلمح لنا، في الوقت عينه، بالديكتاتورية المخبأة في طيات الرأسمالية ذاتها. ففي حين انصبّ همُّ المدرسة الهلنستية على النظرية السياسية والتشريع كما فعل أرسطو وقبله أفلاطون، جاء إبيكتيتوس وركّز على الذات والأخلاق والفضائل. في عصر كانت العبودية طافحة والديموقراطية أشبه بجثة هامدة، اهتم إبيكتيتوس بخير الفرد، وتحسين الذات، سعياً إلى نيل الحرية، والتنعم بحياةٍ سعيدة مهما كانت الأحوال القائمة جائرة. فالحكمة بالنسبة إلى الرواقيين هي المعيار الحقيقي للحرية، والحرّ هو الذي يتحرّر من أصفاد الداخل، ما يعني التخلّص من الرغبات والهواجس التي تكبّل المرء. هكذا يغوص الهيبستر في دهاليز وجدانه، ساعياً إلى تحسّس ذاك المنطفئ الكامن في داخله، فما يصبو إليه هو الانعتاق من كل القيود، وفي مقدمتها ما يفرضه عليه واقعه، وذلك من أجل الفوز بمشاعر غير مألوفة، و«النشوة القصوى»، والحكمة الغامضة التي لا تنكشف سوى بالـ«رايف». ولأنّ العقل بالنسبة إلى الرواقيين هو ما يميّز الإنسان عن الحيوان ويعتبر الملكة الأسمى، فما كان من الهيبستر سوى حقنه بالأسيد، لكي يتفتح، و«يتعالى» ويصل إلى الإشراق اللازم. ولأن إبيكتيتوس كان مصرّاً في نصائحه على العيش على نحو صحيح، بما يتطلّب ذلك من مواجهة لانطباعاتنا، بالأخصّ تلك التي تزعجنا، وأن نحاول فهمها لكي نسيطر بإرادتنا عليها ونتقبّلها، سنجد الهيبستر يتلطّى وراء الحب والسلام، محتفياً بهما في غلاف غزة، فما دام ما يحدث في الخارج ليس من شأنه ستراه يُعقلن الأمور وفقاً للمقولة التالية «من أراد أن يتحرّر من الإكراه، عليه أن يقصر رغباته ومخاوفه على الأمور التي تقع ضمن قدراته». فعند الرواقي، عليك التمييز بين ما يمكنك فعله ومواجهته وبين ما تعجز عنه، فتمتثل له بذكاء، لذا، إن قاومت موقفاً لا قوة لك أمامه، فمثل هذه الخطوة لا طائل منها ويجب تجنّبها، وخصوصاً إن كانت تلك المواقف مردّها إلى سبب خارجي ويُنسب إلى الألوهة. على هذا النحو، إذا كانت هناك ضرورة لاستنباط معنى حفلة الـ«رايف» في قطاع غزة، فها قد أمدّتنا نصيحة إبيكتيتوس به. وبذلك فإنّ مناقشة قضية وجود إسرائيل، بما هي موطن لـ«شعب الله المختار»، تصبح من العبث واللافائدة، فيما التفكير في مقاومتها إثم يجب كبته، وطمسه، بل إدانته في حال حدث. تمدّ الرواقية هؤلاء بالنزعة المعرفية التي تقول إنّ ما يحدث في العالم يفيض عن القدرة على تغييره، لذلك لا بدّ من الاكتفاء بالذات، وتشييدها، وبناء حاجز يصونها ويعزلها عن كل ما يمكنه التأثير فيها.
وفي الوقت الذي ينشغل فيه الآن الهيبستر بتطريز قميصه الشتوي وفي اختياره لونه، يجهد المقاوم من القسام في رشق تل أبيب بالصواريخ والقذائف، فالحكمة أولاً تقتضي تعبيد الطريق أمام الحرية، والحرية تعني فك الأصفاد واستهداف مراكز مسلوبة، وفي الصواريخ والقنابل الملقاة نشوة حقيقية قصوى. عندما ابتعدنا عن العالم واعترانا الاشمئزاز إزاء أهواله، ذكّرتنا القسام بأنّ علينا إعادة قراءة الفلسفة من جديد، والضحك على الأغبياء، والتمسّك بـ«حب القنبلة»، وزوّدتنا بإرشادات الخلاص: إنّ الحدود الفاصلة بين الواقعي والخيالي شفافة جداً، تمحوها إرادة صلبة، لا جرعات أسيد.




.