كتب لويجي بيرانديللو من قبل: «في هذه الرحلة الطويلة من الحياة، سوف تواجه الكثير من الأقنعة والقليل من الوجوه».في هذه الرحلة الطويلة للفلسطينيين، منذ النكبة حتى اليوم، وفي رحلة الأطفال الغزيين الذين تُباع أحذيتهم النازفة دماً قبل أن ينتعلوها، وتُرسل إليهم مساعدات تُساعدهم على طفولة صحيّة وهانئة في بيئة آمنة وسليمة: أكفان بجميع المقاسات، لم يعد ثمة القليل من الوجوه، العالم كلّه أقنعة، العالم زيف، وتزوير، وانحطاط. العالم، ذلك القناع الذي كشف عن قناعه المرعب.
ضمن هذا العرض الغروتسكيّ العالميّ، ثمة عرضٌ آخر، عربيّ. كوميدي (كالعادة). دائماً، فيما يخص القضية الفلسطينية، لا يمكن أن يقدّم الساسة والزعماء العرب إلا ما يعرفونه ويتقنون فعله جيداً: الكوميديا. ليست كوميديا قصديّة، والنص المكتوب قصير سوف نجيء على ذكره بعد قليل. لكنّ العرض يقوم على الارتجال فوق الهيكل النصّي، ودائماً ما يكون ارتجال السيسي وزعماء النفط وأصحاب الممالك لا مضحكاً وحسب، بل يفرط الأمعاء من الضحك.
من قواعد الكلاسيكيّة الفرنسيّة الناشئة في القرن السابع عشر، في المسرح، أننا في الكوميديا لا يجوز أن نضحك على النبلاء الأرستقراطيين، أو الأمراء والملوك والذين يتولون مناصب سياسية، لذا كان كتّاب المسرح يضعون شخصية خادم إلى جانب الأمير أو الملك أو النبيل، هو الذي يقوم بالتصرفات المشينة والمخجلة والمحرجة، كي نضحك عليه. قضى الزعماء العرب على هذا القانون الكلاسيكي: لم يعد هناك داعٍ لوصفاء ومعاونين يتصرفون بسذاجة، إننا نضحك على الزعماء أنفسهم.


في كل انعقاد قمة عربية، طارئة أو غير طارئة، فهم ليسوا في عجلة من أمرهم، وفي كل خطاب سياسي، أو اجتماع، أو مؤتمر، إلى آخر هذه الشكليّات المَرَضيّة والهوسية باعتلاء المنابر والوقوف على مصاطب والإمساك بمايكروفون. ثمة مقطع صغير يجيء في نهاية قصة كتبها سعد الله ونوس بعنوان «المشاجرة» في كتابه «عن الذاكرة والموت»، تلخّص الحياة السياسية والبرلمانية والرئاسية العربيّة، تقول: «ألقى كلٌّ منهم عشرات الأقنعة التي تكوّمت في الغرفة، فجعلتها تبدو مزدحمة وضيّقة جداً. وكان كلٌّ منهم يتضاءل كلّما خلع قناعاً. كانوا يصغرون ويذوبون. صار كلٌّ منهم في حجم قبضة اليد، ومع هذا كانوا ما يزالون يجدون ما يخلعونه. وحين أسقط كلٌّ منهم آخر الأقنعة، وكان من الكلس الجاف، لم يبقَ منهم إلا قطرات محرورة وكثيفة القوام، انسكبت على الأرض، وسالت محملةً بالغبار».
يُفتَتح الكتاب الساذج الصادر عن سلسلة عالم المعرفة «جيران في عالم واحد» وهو نص تقرير لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي، بفقرة أكثر سذاجة من ميثاق الأمم المتحدة الأكثر سذاجة: «في سبيل هذه الغايات استقرّ عزمنا على أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار».
وقد تنكّر الجميع لذلك، وذلك ليس بالشيء المستهجن. لقد تنكّر العرب للغزيين، حكاماً وبعض المحكومين. والتنكّر لغةً يحمل معنى التغيير من حالة تسرّك إلى حالة تكرهها منه، وفي الأحوال جميعها لم تكن حالة العرب يوماً، فيما يخص فلسطين، تسرُّ. والتقنّع مثل التنكّر، أو هو مفردةٌ من مفرداته، والتنكّر كذلك هو الإنكار والتخلّي، وهو التخفّي والتقنّع، وهو أيضاً كما يرد في المعاجم: سوء الأخلاق.
القناع، إذاً، هو إله الحياة العربيّة السياسيّة، وهو إله الساسة والزعماء المشخِّصين أمام العالم، والممثلين فيه كي يكونوا «من الجيران» في هذا «العالم الواحد»، حتى صاروا هم القناع، والقناع هم، أي أنّ الخطر الذي ينطوي عليه الافتتان بالقناع قد تحقّق، وقد تحجّر القناع فوق الوجه (الذي هو في الأصل قناع آخر) إلى حدٍّ وخيم. تمثّل البيرسونا، في عالم كارل يونغ، عالم النفس، كلَّ الأقنعة التي نرتديها. القناع، أو persona، مصطلح يوناني قديم، اتخذه عالِم النفس سالف الذكر ليصف به الوجه الذي يتقدّم به الإنسان للمجتمع (في حالتنا: الوجه الذي يتقدّم به الزعيم العربيّ كفرد، إلى المجتمع الدولي)، إذ قد يجد ضرورة لأن يلبس قناعاً كي يبدو مع العالم في مظهرٍ لائق يتّفق والجماعة، وقد أطلق يونغ عليه أيضاً تسمية «قناع العقل الجمعي»، في كتابه «جدليّة الأنا واللاوعي»، الذي يؤكد فيه أنّ القناع أصلاً هو القناع الذي يرتديه الممثل ويشير إلى الدور الذي سيظهر فيه، كما أنه مجرّد تشكّل اتّفاقي بين الفرد والمجتمع (مرة أخرى: الزعيم العربي والمجتمع الدولي)، وهو ردٌّ على التساؤل حول معرفة الشكل الذي يجب أن يظهر فيه الأوّل في قلب الثاني، والقناع حقيقة ذات بعدين. ما يعني أنّ فلاناً من الناس، يحمل اسماً أو اكتسب صفة ويتحمّل مسؤولية يمثلها، ولنقل إنه رئيس بلد عربي أو ملك على مملكة عربيّة، هو في الأصل قناع، وارتدى قناعاً فوق القناع. أحدهم هو هذا والآخر هو ذاك، بكلمات يونغ. وبما أنّ القناع في الأصل هو القناع الذي يرتديه الممثل للإشارة إلى الدور الذي سيظهر فيه، فليس هناك أوضح من أنّ الزعماء قد كُلِّفوا واختاروا (في آن) أن يتمرّسوا ويتمرّنوا في الكوميديا ديلارتي، أو كوميديا الفن، لأنّ أقنعتها أشهر ما فيها، ولأنها تقوم على هيكل نصّي لا يتجاوز أربعة أسطر، ما يساعد الممثلين على الاحتفاظ ببلادتهم وسذاجتهم وثقل دمهم في الارتجال، لكنّ هيكل النص مقدّس ولا يمكن الخروج عنه، وكَتَبَتُه هذه المرة، وفي حالتنا، معروفون: إسرائيل، وأمّها أميركا.
تعتمد الكوميديا هذه على عدم وجود نص تقليدي، إنما فقط على هيكل سيناريو وُجد مسبقاً، يعلّق كاتبه الأوراق في الأجنحة ليعرف كل ممثل المدخل والمخرج له، فيما يرتجل الممثلون الباقي، أي حواراتهم الكوميدية، من تلقاء أنفسهم، ويعتمدون على تشخيص شخصيات ثابتة، نمطية، ويمثلون دوراً واحداً طوال حياتهم (في حالتنا: دور الزعيم). كذلك فإنّ الأقنعة ليست مجرد تمويهات للوجه، بل هي التعبير الأكمل عن الشخصيّة كلّها، لذا إن لم يكن الممثل متمكناً من لعبة تمثيل القناع، فإنه يتحوّل إلى عائق لا يمكن تخطّيه، ومن الممكن طرده، لهذا السبب.
مثلاً، أنتَ في الغرفة التي تعقد فيها جامعة الدول العربية جلساتها، الطارئة وغير الطارئة، والممثلون خلف منصاتهم واقفون أو جالسون. إن أخفضتَ رأسك قليلاً، تجد الورقة التي فيها هيكل السيناريو. في خطاب السيسي مؤخراً، يمكن تخيّل السيناريو بسهولة: «لا مناقشة في إبادة الغزيين وتهجيرهم من غزة»، وكاتب السيناريو معروف، كما قلنا. كل الذي فعله السيسي، كممثل محترف، هو الارتجال على النص: «إذا كان هناك فكرة للتهجير، توجد صحراء النقب في إسرائيل، ممكن قوي (أوي) يتم نقل الفلسطينيين لحتى تنتهي إسرائيل من مهمتها المعلنة في تصفية المقاومة (أخطأ السيسي في تفصيل من السيناريو المكتوب هنا ما لبث أن صححه على الفور بخوف)، أو الجماعات المسلحة في حماس والجهاد الإسلامي وغيره في القطاع، ثم بعد كده تبقى ترجعهم إذا شاءت». لا يختلف الخطاب الأردني، والخطاب الخليجي، عن خطاب السيسي، إلا من حيث كيفيّة الارتجال. أما محمود عباس، فممثل نادر. رجل يعمل وفقاً لسيناريو قديم، وقد اجتهد، حقيقةً، كي يساعد كتّاب هذا السيناريو، فأضاف مشاهد التنسيق الأمني، وملاحقة الفلسطينيين أنفسهم من قبل سلطته، بل وقتلهم. ما يعني أنّ الرجل رفض أن يكون ممثلاً فقط، بل أصرّ على المساهمة في السيناريو.
يؤكد بعض ما قيل، كلمات سيروس فانس، وزير خارجية أميركا في عهد كارتر، عن السادات، إلى حدّ أنه وصفه بملك العرض الدرامي. كذلك، كلمات بيل كلينتون عن رفض إسحاق رابين لسيناريو معيّن في أوسلو لا يمكن لياسر عرفات الخروج عنه أو الارتجال عليه، إذ أصرّ رابين على رفضه لمعانقة عرفات، واشتراطه المصافحة فقط. حتى أن كلينتون نفسه قد كتب سيناريو احتياطياً أدرجه في مذكراته: «كنتُ أعلم أنّ الرئيس عرفات يحب الاستعراض وأنه قد يحاول معانقة رابين بعد المصافحة. لقد قررنا أنني سأصافح كلاً منهما أولاً ثم سأوحي إليهما بأن يقتربا من بعضهما البعض، إذ كنتُ واثقاً من أنّ عرفات، في حال لم يعانقني، فإنه لن يبادر إلى معانقة رابين».
كلّ ذلك يعني، في الآن ذاته، أنّ المهنة، أو الكوميديا هذه، ليست جديدة، بل تمتدّ لا إلى سنة 1948 فقط، بل ما قبل ذلك.
مع ذلك، أمام كلّ هذه الأقنعة، ثمة قناعٌ واحد، لا هو بيرسونا ولا في كوميديا الفن، إنما هو الوجه الفلسطينيّ الوحيد المأمول أن ينكشف لثامه عنه: أبو عبيدة.