في ختام مقابلة باسم يوسف مع بيرس مورغان قال باسم: «وبالمناسبة، إنّ عائلة زوجتي بخير ولقد أرسلوا لنا صورة بيتهم. لقد قُصف، إنّه جميل، سيكون مناسباً للهالوين».يعود أصل احتفالات الهالوين إلى عصور ما قبل الميلاد. عند شعوب الكِلْت الوثنية، وهي مجموعات هندوأوروبية سكنت إيرلندا وفرنسا والمملكة المتحدة، وكانت احتفالاتهم تدعى «سامهاين». كانت تُقام عند بداية العام الجديد، عند بداية مواسم الظلمة وانتهاء مواسم النور، عند بداية مواسم البرد والصقيع وانتهاء مواسم الزرع والدفء. عند تلك النقطة الفاصلة بين مواسم الحياة ومواسم الموت، باعتقادهم في تلك الليلة تعود أشباح موتاهم إلى الأرض، فيقومون بإشعال نار مقدسة، يجتمعون حولها ويرمون المحاصيل الزراعية والماشية كقربان لآلهتهم حتى تحفظهم من الأرواح الهائمة، وكانوا يرتدون خلال الحفل أزياءً يغلب عليها اللون الأسود.


تنامت المناسبة مع مرور السنوات. مزجتها لاحقاً الإمبراطورية الرومانية مع احتفال «فيراليا» وهو يوم تكريم الموتى ويوم تكريم «بومونا» إلهة الوفرة والثمار. كان يُتنَبّأ في تلك الليلة بالمستقبل وتُروى حكايات الموتى المرعبة. بعدها حمل عدد من الإيرلنديين أمتعتهم وأقنعتهم وتوجهوا إلى أميركا، فتلقّف الأميركيون العيد، قلّصوا من دمويّته، وأضفوا عليه طابعاً ترفيهيّاً، كما تجري العادة، فاستطاعوا تسليعه ونشره في أقطار الدنيا.
يُعدّ الهالوين مناسبةً خصبةً لأدب الرعب. مناسبة أطلقت العنان لخيالات الكُتّاب لتتحوّل سيناريوهاتهم إلى أفلام سينمائية لاقت رواجاً وشعبية. إن الوعي -وفق فرويد- هو مثل رأس الجبل الجليدي الذي يظهر فوق سطح البحر، بينما تظل كتل كبيرة من الجليد غير مرئية تحت الماء وهي اللاوعي. الفن هو وسيلة لتسرب مكنونات اللاوعي. عبره تزيغ عيون الأنا الأعلى عن قضبان العقل الباطن لتتحرّر الأفكار المخفيّة خلسةً وتعلن عن نفسها المخاوف والمشاعر المكبوتة. تتمظهر في ميدان الفن لتُحاكي لا وعي المتلقّي، فيتقابل المحكومون بالمؤبد -المكبوتات- في الهواء الطلق أمام أشعة الشاشة الكبيرة أو أمام ألوان لوحة مثيرة، أو أمام كلمات منظومة أو منثورة. إنه بمثابة عفوٍ مؤقت لكل الأفكار المحظورة: الأوهام القابعة في أروقة الدماغ ومتاهاته، المخاوف التي يرتجف صاحبها ويلتحف الادّعاء بالجسارة، العدوانية المُغلفة بالضمير، الشر الكامن المقنّع بالود. الضعف والنقص اللذان يتحركان في الدماغ بسيارة «فوميه». قد تبدو مشاهدة الرعب أو قراءته فعلاً مازوشيّاً حيث ينسجم المُشاهد مع البطل والأحداث حدَّ التماهي، يتسارع خفقان القلب حدّ اللهاث، وتنتاب الجسد قشعريرة تهز كيانه، ويُصاب العقل بالذهول.
يُظهر أرسطو في كتابه «الشعر» -وهو أقدم كتاب نقدي في تاريخ البشرية- رفضَه لآراء أستاذه أفلاطون. يؤمن أرسطو بأن المأساة (التراجيديا) تُنمّي عاطفتي الشفقة والخوف، مثل أفلاطون الذي رفضها لأجل ذلك، لكنّه يختلف معه، مُؤكّداً أنّ المأساة أرقى أشكال الشعر للسبب ذاته، والسبب بحسب أرسطو، في أنها تجعل المشاهدين أكثر قوة عبر تطهير العواطف، أي إن أرسطو يرى أن التوازن الانفعالي والنفسي والوجداني -وهو ما تؤديه المأساة عبر التطهير- يؤدي إلى التوازن الأخلاقي، وبهذا المعنى، فإن أرسطو يرد على أفلاطون الذي رأى أن الشعر -أو الفن- مفسد للأخلاق، مُؤكداً أن الشعر ينهض بوظيفة أخلاقية. يذهب أرسطو أبعد من ذلك حين يقول: «إن الشاعر (أو الفنان) لا يحاكي ما هو كائن، لكنه يحاكي ما يمكن أن يكون». فالطبيعة برأيه ناقصة والفن يتمّم ما فيها من نقص، لذلك فإنّ الشعر في نظر أرسطو مثالي، وليس نسخة طبق الأصل عن الحياة الإنسانية.
إنه التطهير إذاً، لكنّ التطهير هو الأثر إنما الدافع هو الفضول، الفضول الذي يدفع المراهق للركض فور دخوله مدينة الملاهي صوب لعبة الأشباح، يدخلها ليدوي صوت من هنا، ويضيء شبح من هناك، وتُطلَق جمجمة في وجهه، ويتدلّى جسم من السقف، ورغم ذلك لا يكفّ بل يُعيد الكَرّة، إلى أن يصير المشهد مألوفاً وينعدم التفاجؤ.
من روّاد أدب الرعب في العالم العربي «العراب» أحمد خالد توفيق الذي «جعل الشباب يقرؤون»، والذي ظل عدم تحويل أحد أعماله إلى عمل سينمائي حسرةً في قلبه إلا أنه تنبّأ أن يحدث ذلك بعد موته وصدقت نبوءته عبر تحويل سلسلة «ما وراء الطبيعة» إلى مسلسل هو المصري الأول على نتفلكس. ظلّت روح الطفلة شيراز هائمة تؤرّق رفعت إسماعيل طوال حلقات الأساطير، إلى أن تجرّأ على زيارة بيت الخضراوي المرعب، وحاول فك الأحجية والاستجابة للإشارات، ليكتشف اللغز في القبو حيث تقبع جثة شيراز المُحترقة، ينتشل عظامها ويدفنها لتسكن روحها.
وعلى صعيد آخر، يُعدّ ستيفن كينغ عميد أدب الرعب، وهو صاحب أكبر عدد من روايات الرعب التي تحوّل إلى أفلام سينمائية عالمية، وأعماله متنوعة، منها ما له بُعد نفسي، فانتازي، ما ورائي، منها ما يرتكز على الجريمة والغموض، ومن أعماله: «البريق»، «بؤس»، و«مقبرة الحيوانات». يقول كينغ: «كلنا لدينا مخاوف ونزعات انتحارية ورغبات جنسية، أفلام الرعب تحقّق شيئًا من هذه الرغبات وبالتالي تُقلّل من قدرتها الفيزيائية على التحقق».
يلعب صناع السينما على التوتر والقلق، يوظفون مخاوف العصر، فيواجه المشاهدون مخاوفهم ويتغلبون عليها، الوحوش رموز للتحولات السياسية والاجتماعية التي يعيشها العالم. التزاوج بين عالمَي الوحوش والبشر في الأفلام، أليس له بعدٌ واقعي؟ العنف الأسري مثالاً، ما يحدث في سجون الاحتلال مثلاً...
بعد كلّ هذا العرض نحطّ الرحال في المثل الأخير، فيلم فرانكشتاين الذي صدر في ذروة الكساد العظيم حيث التضخم والبطالة عام 1931: انبرى العالم فرانكشتاين إلى جمع أشلاء جثث متفرقة، جمعها في مسخ انبعثت فيه الحياة إثر صعقة برق، ليتحول بعدها إلى وحش غير قابل للسيطرة، يقتل المحيطين به. إنما منظمة الصهيونية العالمية، التي صدرت في بازل عام 1897: انبرى ثيودور هيرتزل إلى جمع أشلاء جثث الهولوكوست المتفرقة، جمعها في مسخ انبعثت فيه الحياة إثر صعقة بلفور، ليتحول بعدها إلى وحش غير قابل للسيطرة، يقتل المحيطين به. وجلّ ساسة العرب هم الدمى، الدمى بعيونها التي لا ترمش وابتسامتها الثابتة، دمى ممسوسة أميركيّاً، تتحرك داخليّاً، وجيوشها لا تواجه وتقمع سوى شعوبها، وفي أحشائها زر، عند الضغط عليه تردّد: تنديد تنديد تنديد. جلّ رؤساء العالم دمى، عيونها لا ترمش، وابتسامتها ثابتة، والأهم أنها بلا قلب.
التطهير هنا معناه مختلف، ليس تطهير أرسطو، التطهير هنا ليس أثراً بل هو الدافع، التطهير تطهير عرقي، إبادة جماعية، إراقة دماء حتى الفناء. والعالم يشاهد، ويشارك، ثمة من يتماهى مع المسخ الذي تحوّل إلى وحش، ويبرر له ويسانده، وثمة من يتماهى مع الضحايا، يتماهى حدَّ الإغماء. والمتماهي مع الضحايا متّهم بمعاداة السامية، لكن الحقيقة أنه معاد للسادية.
البيوت الفلسطينية مناسبة للهالوين فعلاً، فأصحاب الدار هُجّروا، لكن أرواحهم ظلت هائمة هناك، الأحياء منهم والأموات، أرواحهم تحوم بين الجدران، وجدران فلسطين ليست جماداً، ليست صمّاء ولا عمياء، بل تسمع وترى، تشم رائحة الموت، تتذوق مرارة العذاب، وتنطق بفصاحة قلّ نظيرها. صوتها صادح بالحقيقة، تحكي قصة أصحابها وتطالب بإعادتهم، تشمئز من نُزَلائها، وقريباً ستلفظهم خارج أعتابها.
مواسم الموت عند الكلتيين هي مواسم الظلمة وفناء الزرع، يقول نجيب محفوظ: «إن العواصف والثلوج تفني الزهور ولكنها لا تميت بذورها». نقول: إن الاحتلال عاصفة مهما اشتدت وامتدت، ستنتهي، سيزول الزيف، ويعود الصيف. الزهور التي تفنى تظل بذورها، والأطفال الذين يُقتلون تظل مثل شيراز في الأسطورة أرواحها هائمة، لن تستكين ولو دُفنت، إلا عند إدراك الثأر، والثأر يتحقق عند تحرير الأرض واسترجاعها. يقول جبران خليل جبران: «إن الأشجار تعطي لكي يتسنى لها أن تحيا» والأشجار التي تُقطف ثمارها وتتهاوى أوراقها، كما تقطف أرواح الشهداء وتتهاوى أجسادهم، جذعها ثابت ومتين، لا يلين مهما اشتدت الرياح، والأشجار كالمقاومة معتادة على البذل، تعطي لكي يتسنى لها أن تحيا، ولكي يتسنى لنا أيضاً أن نحيا. والأرض في فلسطين ليست جماداً، بل كائن حي، تتنفس في كل زاروب، وفي كل حي، الأرض التي ارتوت بالدماء حتى فاضت، الأرض التي تستر من تحتها في الأنفاق، الأرض التي لا تقبل الصلح والنفاق، تقاتل مع أصحابها، فهي لهم، وهم لها.
عاجل: «صفارات الإنذار تدوي». الرعب، الرعب في أبلغ معانيه، في ذروة مراحله، يهز الكيان المسخ. في غلاف غزة ثقب أسود، عنده بدأ يتفتّت ذلك الوجه الفظيع الذي لا ينتظر مناسبة تنكرية حتى يظهر، إلى ذرّات متناثرة.