القليل من الضوء والكثير من العتمة. تحت أضواء النور الخافت وبالنزر المتبقّي من عمر بطارية الهاتف، يدوّن الغزّاويون وصايا موتهم على تويتر. الموت جارهم البغيض الذي يستحيل التنبؤ بموعد زيارته. تُكتب الوصية، ليس بداعي الإفصاح عن آخر الكلام فقط، بل لأنّ الكتابة هنا متواطئةٌ مع النبض الحيّ. الكتابة كنفيٍ للعدم. إصرار وتحقيق وإثبات. الكتابة بما هي استحضار للصوت الذي لم تخرسه رهبةُ الموت الفظيع تحت الركام، ولم تمنع رائحة القبور التي تفوح من المستقبل القريب من تحققها، ولا عن الاستمرار بالعيش. تُكتب الوصية للإفصاح عن آخر الكلام، ولأنّها الإمضاءُ الدامغ تحت بند «ما زلت على قيد الحياة».
من معرض «شغب طفولي»، ياسر الصافي

يكتب الغزّاويون الوصايا ويلحّون على القرّاء تذكّر أسمائهم: «نحن لسنا أرقاماً» يقولون. ولأنّ الكثير من الصرخات المجهولة دُفنت مع أصحابها حتى صار فقدان الصوت بمثابة فقدان الشخص راحوا يكتبون أسماءهم على جلودهم. من المفضّل أن يكون الحبر أسود حتى تبين الزخرفة من دون أن يطغى عليها بياضُ الأتربة وركام الأبنية المحطّمة. يغرز القلم في البدن ويرسم علامةً: اسم الشخص. القلم يحفظ الأثر. هذا ليس وشماً، إنّه بزوغٌ لمذهَبٍ أدبي جديد. كتابةُ الاسم على الجسد هي الكتابة بالدم. إنّها تعويم للذاكرة وترسيخها في وجه الزمن، هي إضفاء الهوية على جسد صاحبها: كان لهذه الجثة اسم، وكان لهذا الاسم وجه، وكان لهذا الوجه أعينٌ ستلاحقك دوماً في المنامات. عندما يُتعرّف إلى المقتول عبر اسمه الموجود على جسده تغدو الجثةَ عندئذٍ معروفة، أي متعرّفاً إليها من قبل الاسم المكتوب عليها، وهذا نفيٌ مباشر لفعل الإبادة الذي يساوي بين اللحم والحطام. يعرف الجسد عن نفسه من خلال اسم صاحبه. الهوية هنا أكثر من ذكرى، وكأنّها صارت خالدةً. كأنّ المقتول لم يغلبه القتل، لأنّ اسمه وجسده المتعانقين، أي أثره الكامل، بارزان للملأ. نحن إذاً أمام فعل مقاوم ينبعث من بعد الموت. ثم إنّ الجثة هنا لا تدلّ فقط على صاحبها، هي لا تحمل اسمه لإيجاده فحسب، إنّها لا تقول كان لهذا الغياب حضور، إنما تكشف عن دلالة سياسية وجوهرية: هذا «الجسد مبادٌ». ما يعني أنّ غياب الشخص هو تغييب، وموت (هذا) الميت كان بداعي القتل. وجود الاسم على الجثة هو تسمية الجثة باسمها، وهو تعريف بالفاجعة وتوكيدٌ لها.
■ ■ ■

جميع الأخبار العاجلة هي أخبار المجازر. المجزرة مستمرة حتى الانقضاض على آخر ثمرة من شجرة العائلة. إذا كان اقتلاع جذور الأشجار من وظيفة الجرافة التي محت الطبيعة الفلسطينية فإنّ القنابل المنهمرة على غزة كفيلة بإكمال عملية محو طبيعة الكائن الفلسطيني. ثمّة ما يربط المراسلين الميدانيين بعضهم ببعض، وكأنّهم في حالة تخاطر، فالخبر هو ذاته يُنقل حرفياً على جميع الشاشات: «أفراد العائلة كافة لقوا حتفهم، ولم يتبقّ منهم أحدٌ، عائلات بأكملها امّحت من السجل العدلي». لكن في الوقت عينه، طُلب من إدارات المستشفيات في غزة إعداد لائحة تضمّ أسماء الموتى - القتلى. يخبرنا عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو كيف أن الوثائق المدنية، كالسجل العدلي مثلاً، تساعد في تقفّي أثر المواطن، وفي تتبّعه، وفي «أرشفة وجوده»، الأمر الذي يفسح المجال للاستحواذ على طيف الوجود، والقبض عليه على نحو رمزي. يشير بورديو إلى بُقع\بؤر القوى المنتشرة، والنزعة السلطوية الجائرة في مكاتب كتاب العدل والدوائر الرسمية، ويطالع نقدياً معنى أن تكون «الشرعية الخالصة» عند الإنسان؛ أي حريته الخاصة، التي تتجلّى في خيارات وقرارات وخطواتٍ معدّة من قبله، ممسوكةً من قبل الدولة ومكشوفة لها. امحّت السجلات العدلية في فلسطين حتى غدت أسماء العائلات وثيقة وفاة. غير أن وثيقة الوفاة في الحالة هذي مكتملة الملامح، وتحقّق أقصى ما تستطيع تحقيقه على صعيد العدالة، ذلك أنّها تضمن حقّ ورود كل اسم، بالإضافة إلى تاريخ مولده، وذكرها أقاربه مع إيراد جملٍ تُناشد الرحمة والتضرّع على روح المذكور، فالموت حق للجميع ووثيقة الوفاة تضمن هذا الحق. وثقية الوفاة على عكس السجل العدليّ، وهي أكثر منه إنصافاً بما يخص حق العيش. السجل العدلي المنبثق، لا من مراكز سلطوية متفشية، بل من مركز سلطوي واحد، يسلب كل حق، ويطمس كل حياة ويشرّع الإبادة. هل للسلطة\ «الدولة» المتكاتفة مع الاحتلال أن تعترف بوجود الخارجين عن طورها؟ في فلسطين، السجل العدلي مثله مثل كلّ ما يُشتق من السلطة من أوراق وسجلات رسمية ومدنية، مجرّد أوراق إدانة، قرارات موثّقة صادرة من محكمةٍ تنصّ على الإعدام. في موت الفلسطينيين موتٌ لمقولة الدولتين.
■ ■ ■

ينصحنا بوب ديلان في أغنيته «Subterranean homesick blues» بالتالي: «لا تحتاج إلى رجل الطقس (الراصد الجوي) لمعرفة الاتجاه الذي تهب منه الرياح». غالباً ما يصاب المعتاد على المناخ الرطب بالحمّى إذا ما تعرض لرياحٍ باردة. وقد يصاب البعض بنكسةٍ، وقناة العربية أبرز مثال. لكن، من يحتاج إلى رجل طقس لم يغادر الاستوديو قطّ؟ ولأن الرياح معروف مصدر هبوبها، فمن الذي يحتاج إلى قناة العربية لمعرفة كم دبابةً فجّر المقاومون، وما هو عدد الصواريخ التي أصابت تل أبيب؟ في يومٍ من الأيام الفائتة، أطلق المذيع في قناة العربية على حركة حماس اسم داعش، عوضاً عن أن يقول حركة حماس قال داعش. اعتذر المذيع في ما بعد عن ارتكابه «خطأ»، عازياً ذلك إلى زلّة لسان، وأصرّ على أنه، وقناته، يبغيان المصداقية، وهما على درجة قصوى من الاحترافية، قبل أن يتوجه إلى الجمهور بقوله: إننا نصرّ على الموضوعية كما عاهدنكم دوماً. ولكن كلنا نعلم أن الرصد الجوي مهمّة تشبه التنجيم من حيث إنه لا يمكن المعرفة المطلقة بأحوال الطقس قبل حدوثه، ما يعني أن الراصد الجوي مخروق بعلامات استفهام كثيرة، ومصداقيته مهددة دوماً، وعليه، فلا يمكن تصديق ما يقوله حتى ولو كان قوله اعتذاراً. قبل خطئه ذلك، سبق وحدث ما يلي: بينما كان مراسل قناة العربية أحمد حرب الموجود في خان يونس يغطّي الإبادة، أشار إلى غارةٍ إسرائيلية أسفرت عن استشهاد أحد عشر شهيداً، ثم تدارك ما صدر عن لسانه، فاعتذر (توالي الاعتذارات والإكثار منها يقوداننا إلى الكشف عن عقدة ذنب طافحة) واستبدل كلمة الشهيد بالضحية. أن يُشارك مذيع قناة العربية «المؤسسات الموضوعية» الأخرى المهمة ذاتها في شنّ إبادة إعلامية تقوم على ذبح الحقيقة وقطع رأسها في التشويه، والإقصاء، والفبركة لهو أمرٌ متوقع. الحرب هي حرب الصورة أيضاً، وحرب المصطلح، وبلا شك هي حرب الرغبات. لكن مذيع العربية قد صرّح بأن زلة لسانٍ أصابته. نحن أمام هفوةٍ إذاً، والهفوة في التعريف الفرويدي خطأٌ في الكلام بسبب دخول أو تداخل رغبة غير واعية إلى حيّز الوعي. المذيع على قناة العربية يكشف لنا عن رغبةٍ ما، وكونه الوجه الإعلامي للمحطة فهو، بطبيعة الحال، ناطقٌ رسمي عنها. نحن أمام رغبة جماعية إذاً، رغبة لا تتماهى مع «الإعلام الغربي» الذي لا يطأطئ رأسه خجلاً إذا ما انفضحت فبركته، لكنها رغبة هائجة من نوعٍ آخر لا تقاس إلا بسياقها. على هذا النحو، ولأننا أمام علاقة تطبيع لا تبدو محرّمة، فالرغبة هنا هي رغبة المحبّ في أن يُلحق المحبوبُ الخسارةَ بحماس؛ هي رغبة انتصار إسرائيل وأفول المقاومة. لكن لربما وجب علينا النظر إلى الجهة الممتلئة من الكأس، فحشر قناة العربية لداعش في زاوية الإرهاب قد يحيلنا إلى تلمّس أنّ شيئاً من «التحديث» قد أصابها فعلاً... أم لا؟

■ ■ ■

حتى الحرب تعجز عن الوقوف سدّاً منيعاً أمام التريند. عموماً، إنّ أسوأ أنواع التريند هو ذلك الذي يصنعه المثقّفون. شاع في الآونة الأخيرة تعريفٌ «ترينديٌّ» لإسرائيل. تعريفٌ يطرح نفسه على أنه مزحة لغوية، حيث يضع إسرائيل كدالّ ويقدّم السرقة كمدلول. التريند\ التعريف يفيد: «لقد أسرلت منزلي؛ أي سلبته مني» (You israeled my house: You stole it). على أن التركيب الدلالي هذا شبيه جداً بلعبة لغوية حدثت عام 2014، بعد خسارة المنتخب الإيطالي أمام الأوروغواي في كأس العالم، والسبب الرئيسي آنذاك ذلك مرده عضّة اللاعب لويس سواريز للمدافع الإيطالي ما أدى إلى إصابة الأخير ومغادرته الملعب. بناءً على تلك الحادثة جاء التركيب على النحو التالي: «سواريز: صفة دالّة على الجوع المفرط. خوى. سَغَبَ. مثلاً: أشعر بسواريز معناه أستطيع أن ألتهم بقرة». نعود إلى «تريندنا». مثل كل تريند فإنّه من الصعب تعقّب مصدر نشوئه، يبقى أن اللغة هنا، وهي الإنكليزية، تسمح لنا بإدراك منبع هذه التريند، ومن ثم فإنّ سذاجة المعنى المطروح تخبرنا بأفق القائل إذا ما قرّر خوض مقاربةٍ تخصّ هذا الشأن. عدا عن كون الأسرلة، والتي تعني الصهينة، هي من قوام السياسة الإسرائيلية الممارسة في «الحقبات الباردة» عبر مسلسل «فوضى» مثلاً والكثير من الأدب والتاريخ والمقالات. فالسرقة هي وجه واحد، ويمكن عدّه ناعماً إذا ما قورن بالوجوه الأخرى العديدة المتوحشة والمرئية، بالتالي فإنّ معنى إسرائيل هنا قاصر. تُقاس متانة المزحة هذه على مقياس التريند ذاته، أي بما يعنيه كتريند وبما يمثّله. تنزاح المزحةُ عن مسارها وتغدو إسفافاً مبتذلاً، ويمكننا اعتبارها سذاجة هيبسترية، لا فرق. غير أن ما يعنينا من هذه التريند هو الدلالة، إذ يتضح أن مطلق هذا التركيب المعجميّ لم يسمع بالمستوطن يعقوب، على الرغم من أنّ شكل التريند نفسه يبدو، ظاهرياً، وكأنه محاكاة لتلك «اليعقوبية». فالموازاة بين المستوطن الإسرائيلي والكيان الإسرائيلي تبدو لعبة ديمقراطية، تشي بشيء من التبرئة للوحشية والإبادة اللتين تتقنهما إسرائيل، وذلك في تصويرها بأنها مجرّد سارق مهووس باقتحام المنازل وسرقتها. في لعبة المفردات والتراكيب، تبدو المقاومة غير آبهة لا بالانزياحات اللغوية ولا بغيرها من أشكال المواربة. في خطابه الأخير، صرّح أبو عبيدة: «فنحن أخذنا على عاتقنا كنس هذا الاحتلال». لا يحتاج أحدنا إلى معجمٍ لمعرفة معنى كَنَسَ. كنَسَ هو فعل التكنيس، والتكنيس ممكن أن يتمّ بمكنسة أو برشاشٍ. كما أنّ ما تكنسه هو العابر والزائل والمضرّ غير المفيد. كَنَس المكان: نظّفه بالمكنسة. المخبوء الجديد الذي طاف الآن، وهو بالضرورة مستمد من خطاب أبو عبيدة، هو المعنى التالي: كَنَسَ في وجهه: استهزأ به. والاستهزاء هو المزاح بأكثر درجاته فظاظةً وغالباً ما يكون الضحك جراءه صاخباً. تكنيس أبو عبيدة هو تحرير الأرض، وتحرير النكتة من الطارئين عليها، واستقامة اللغة في أكثر الأوقات شدّة وبلاغة.