كان العنف عندما يبلغ أقصى مداه يتجلّى لفظياً بعباراتٍ لها من الوطأة ما يتخطى القدرة على الاستيعاب. فإذا ما نزلت عبارة: «سآكلك وأنت حيّ» أو «سأنهش روحك» على مسمع الآخر، خال أنها تهديدٌ مضخّمٌ حتى ظنّ العبارة مجازاً. إن عدنا إلى نصوص الأدب سنجد أن نهش الإنسان لحم الأحياء؛ حكايات مضغ الإنسان لحم أبناء جنسهِ، واستطابته عظامهم، وشربه دماءهم، ليست ضرباً من ضروب التهويل، إنما وجبة دسمة لطالما اشتهاها. أما إذا قررنا اعتبار الأدب إثماً وجب صرف النظر عنه، أو ابتعدنا عن مروياته، نظراً إلى ضرورة الاستعارة وكثرة التأويل، وغصنا عوضاً عن ذلك في التاريخ وأخباره، فسنعثر على معظم آكلي لحوم البشر في سياقات الحصار والحروب، في سطوة الندرة وحلول المجاعة.
تصميم هاشم رسلان

ولكن عندها سنهدي كاتب التاريخ انتصاراً ثانياً ساحقاً لأننا سنتواطأ معه مذعنين لإلقاء اللوم على المحاصر الجائع؛ ذاك الذي يلتهم من يجاوره من دون أن يخزه ضميره ومن دون أن يتعرّض حتى إلى عُسرِ هضمٍ. لكنّ كتابة التاريخ في الكثير من الأحيان تشبه كتابة القصيدة، بل إنّ كتابة القصيدة منصفة أكثر من رواية التاريخ. هكذا نجد أنّ المبالغة، والتهويل، والتضخيم في الشعر مثلاً، أغراضٌ لا يمكن الاستعاضة عنها ولا إقصاؤها فإذا أزيحت جانباً تلاشى الشعر واستحال. في حين أن ليس التاريخ إلا حكاية واقعية جافّة تنتظر أن تروى. وعند تداولها يصبح التاريخ أشبه بمنشر الغسيل الخاص بالغزاة، وضع بالقوة والفرض، على شرفة الأموات القتلى لإلصاق أوساخهم بهم. هكذا يصير الحدث التاريخي المدوّن مقلوباً، فيما المراد من هذا التدوين أن يكون بمثابة قربانٍ، لأن آكل لحوم البشر ارتأى أنه عبر تبديل الفم، أي جعل المأكول مسؤولاً بدلاً منه عن أكل لحوم البشر، يكون قد اغتسل من خطاياه. على هذا النحو، يصير من البديهي فهم اتهام إسرائيل المقاومة الفلسطينية بضربها مستشفى المعمداني، ويصبح من البداهة ربط هذا اللامعقول الذي يحدث في غزة، من إبادةٍ وتطهيرٍ ومحو، برغبةٍ حميمية مكبوتة، عاجزة عن الإقرار والإدلاء بمكنونها، نظراً إلى شرائع «حديثة» استمدت تعريف «الجريمة» من التاريخ الذي دوّنته بنفسها. يبدو أنّ عجز إسرائيل عن تحريك حنكها في علك اللحم، وتمزيق الجلد، وعدم قدرة أياديها على الغمس بالأدمغة المتفجّرة، جعلاها تستعين بقنابل ذريةٍ لكبت رغبتها الجامحة، مع الإبقاء على نيّة القتل.
يبدو وكأنه انتقامٌ صارخٌ إزاء هذه الأصفاد الآسرة. نقمةُ يبتغي صاحبها العودة إلى البدء: إلى همجية قديمة كان فيها أكل لحوم البشر أمراً لا يحتاج إلى أعيادٍ أو مناسباتٍ أو تأشيرة قبول. ثمة رغبة كانيبالية عارمة نعثر عليها في سلوكٍ هائج لا يهدأ، يبدأ بالتنكيل بالجثث، والاغتصاب، وردم الأبنية فوق رؤوس ساكنيها، ولا ينتهي في تفريغ سادية متوحشة على الأجساد، وفانتازيا مريضة حدّ النخاع، تبلغ انتشاءها في رؤية الأرواح تحترق. شهية إسرائيل المفتوحة على القتل يعادلها جوع مزمن لمذاق اللحم البشري. نهمٌ مدفوع بشبقٍ لا يستكين. ومهما بلغ عدد الأجساد التي تُمضغ تحت الأضراس، فإنّ سيرة آكلي لحوم البشر تشهد على أنّ «الكانيباليّ» لا يشبع؛ كل أجساد العالم لا تسدّ جوعه، وخواؤه الشاسع لا يعرف التخمة، ولو انتقل من قضم الأجساد الحيّة إلى التهام الجثث.
ليس بغريبٍ أن تتضامن مطاعم اللحوم التالفة- أمثال ماكدونالدز وغيرها- مع إسرائيل وأن تدعم إبادتها؛ هذه مطاعم تابعة لشركاتٍ حوّلت العالم إلى غابةٍ مفترسة، وإننا على علمٍ بهذا. أكلة لحوم البشر يأخذون من غزة طاولة سفرة ويدعون شركاءهم لمشاركتهم وجبة الطعام. إف 35 بدل الشوكة والسكين ولا حاجة للمنديل لمسح الدم السائل عن الشفة، ليس للإحراج مكان هنا، فليأخذ الضيوف راحتهم، إذ إنّ الشاهد لا يطلق أحكاماً فلا ضرورة للإتيكيت. عندما نقول إن إبادة تحصل بسلاحٍ محرّم دولياً، وعندما نرى مستشفى مقصوفاً ومن المحرّم قصفه، فمعناه أننا أمام مفترسٍ قادم من الجحيم يستبيح كل أشكال الوجود ولن يتوانى عن ابتلاعنا في جوفه. علينا أن ننتبه إلى أكلة لحوم البشر وشركائهم.