تفتّحت عيناي على زمن «بلايستشين 2»، ولكنني في صغري دائماً ما أحببت اللعب على جهاز «الأتاري» العتيق المتوافر في منزلنا، والذي كان عصرياً جداً من نوع «سيجا» حين اشتراه أبي لأخي الذي كان يكبرني في السنّ في نهاية التسعينيات. ولمدة قريبة كانت تلك الكلمة، «أتاري»، حين تتبادر إلى ذهني تحمل معها أياماً صيفية ذات ألوان زاهية مشمسة. فلقد كانت الإجازة الصيفية التي نأخذها بعد انتهاء موسم الدراسة هي الوقت الذي يخرج فيه والدي جهاز الـ«أتاري» ويقوم بتجهيزه بعد تركيبه وتوصيل كهربائه المعقّدة. ولكن في عام 2017 أصبحت تلك الكلمة تجسيداً محضاً للعتمة والإحساس بالحنق. فبعد أن كانت «الأتاري» جهازاً للعب، تحوّل مدلوله إلى سيارة ضخمة خاصة بالشرطة، دخلت إلى الخدمة في ذلك العام، وكانت متطورة تكنولوجياً، وكانت واسعة حيث تتسع لعدد كبير من رجال الأمن، وهي مُخصصة للذين «يذهبون وراء الشمس» حيث آخر قطرة ضوء رأوه كان ضوءاً أزرق اكتشفته تلك السيارة الضخمة، التي أسماها أبناء الشارع لسبب مجهول «أتاري»!
من مجلة نيون، بوستر لفيلم «Back to the future»

حين ألقى «موسى»، غاضباً، الألواح على الأرض رغم قداسة الكلمات التي وردته من ربه، كان الله رحيماً به وصفح عن خطيئته. نحن من المشائين في شوارع البلد لنا لوح أيضاً، ويحمل وصيّة واحدة لا عشر، وهي: أن تحترس مما أخبرتك به في عنوان تلك المقالة. فإذا نسيت فإن «الضابط» -والدنا الصارم- المتربّص في قسم الشرطة ليس رحيماً على الإطلاق. عليك أن تسير «داخل الحيط» كما نقول، وإلا فستكون ليلتك الأخيرة في «الأتاري»، قبل أن تتلاشى في اختفاء حتمي.
للـ«أتاري» عينان زرقاوان تدوران دورة لا نهائية. مهمتهما التحديق في المارة، والهائمين في الميادين الحيوية خصوصاً. عينان تحملقان بقوّة، تحذران من مصيرٍ لا يمكنك أن تتنبأ به على الإطلاق في حال أغضبت صاحب «الأتاري». بحلقة تلك الأعين تثير الرعب، تجعلك ترتجف. حتى ولو كنت سائراً في ملكوت الله، متيقناً من أنك لم ترتكب جرماً جنائياً أو أي حماقة من قبيل أن يكون لديك رأي سياسي يخص البلد أو أشقاءه وجيرانه. تلك الحملقة تجبرك أن تحثّ الخطى حتى تتوارى عن الأنظار. ربما تتصبب عرقاً ولا تحملك قدماك مثلما حدث مع «راسكلينكوف» حينما قتل العجوز المرابية، أو أسوء، عندما يوقفك صاحب «الأتاري» طالباً أن يرى هويتك، ليس لشيء سوى أنه شعر بريبة عقب رؤيتك؛ لأن لحيتك مثيرة للشك مثلاً، لا يهم إن كنت من «الهيبيين» أو من «السلفيين» أو أنك شخص يقتله الكسل فينسى أن يحلق لحيته. ليست اللحية فقط، بل كل شيء، عند صاحب «الأتاري» خاضع للشك، من ثم للتأويل، إذا ما أراد توقيفك.
ستصطف إلى جانب الأخيار إذا لم يطلب صاحب «الأتاري» أن يرى هاتفك، ويلحقه بسؤاله المعتاد «ممكن تفتحلي باسورد تليفونك؟»، بصوته البارد وكأنه قادم من «زمهرير» الجحيم. صوته يشي بذلك العذاب جرّاء البرودة القارصة التي يتوعّد بها الله عباده العاصين. وبالطبع، ليس لديك الحقّ في أن تبدي رأيك أو امتعاضك، أو رفضك لطلبه طالما أنك تحمل هوية البلد الذي يجبرك على احترام قانون الطوارئ الخاص به. ولن ينجيك من هذا الأمر- وطلبه لبطاقة هويتك هو فعل أمر- إلا الله إذا أراد ذلك، أو باسبوراً لبلادٍ أخرى مثل جزر «الواق واق».
في «البلد» ليست كل القوانين مكتوبة أو منصوص عليها دستورياً. فقوانين «الكابالا» الجمهورية أهمّ مما كتب بالحبر على الألواح. واحد من أهم قوانين «الكابالا» الموجودة في «البلد» هي أن توافق منصاعاً على أنك حينما تشتري هاتفاً جديداً فإن «البلد» سيشترك معك في حقّ معرفة كلمة السر، «الباسوورد»، لفتحه وللنفاذ إلى ما فيه من معلوماتٍ وصور شخصية وعائلية. عليك أن تحرص على احترام ذلك كاتجاه القبلة قبل الصلاة. أما رفضك إعطاء «الباسوورد» لصاحب «الأتاري» الذي يمثّل سلطة «البلد» والحريص على قوانين «الكابالا» فسيُعرضك لسيلٍ من الإهانات اللفظية، وربما الجسدية، حيث سيتحول ذلك الصوت «الزمهريري» إلى صوت مزمجر، فيه من الغليان ما يجبرك على تسليمه إياه، صاغراً، وقد تتوسّله أن يتوقف عن إهانة كرامتك. وهذا ما حدث لي في إحدى المرات عندما صدّقت أنني إنسان. فقانون «الكابالا» المقدّس في «البلد» يقرّ بأنك لست «إنساناً» متساوياً مع صاحب «الأتاري» ورؤسائه، أو لست «إنساناً» على الإطلاق، بل مجرّد جسد مع القليل من اللحم، تتحدد ماهيتها واسمها وتهمتها وفقاً للتصنيف الذي يحلو لصاحب «الأتاري».
حين يتجوّل المشاء في الميدان محاطاً بأكثر من سيارة «أتاري» على الرغم من الاستقرار الذي ينعم به «البلد» حيث لم يشهد تظاهرة واحدة منذ أكثر من عشر سنوات، فإنّ فطنة المشاء سرعان ما ستقوده إلى سؤالٍ البديهي: «لماذا كل هذا الانتشار العبثي؟». لقد ظنّ أنه بسؤاله أذكى من أصحاب «الأتاري»، ولكنهم في الواقع، أذكياء لأنهم استوعبوا الدرس التاريخي. في ألمانيا المنكوبة عام 1931، كان الشارع ساحة معارك ضارية بين القوميين الاشتراكيين والأحزاب الماركسية. يومها كتب جوزيف جوبلز بحذاقته الشريرة المعتادة: «من يستطيع السيطرة على الشارع يسيطر على الدولة». وتلك السيطرة يجب أن تتمظهر في الأماكن ذات الكثافة الحركية، وبخاصة، الطرقات السريعة التي تجري عليها التجارة وحركات النقل. وفي هذا الشأن، لدى «البلد» الكثير من «الأتاري» الذي يتوعد بهم قائلاً: «لنرَ من هو سيد هذا الشارع». إن ذلك الانتشار الذبابي، يردع المخيال الفانتازي للمشاء الذي ينسى على الأرجح، أنه يجازف، فهذا المشي الذي قد يودي به إلى السير «خارج الحيط».
«الأتاري» سريعة جداً، وقوية، ومصفحة بالحديد، وبهيبة رجالها كذلك. صاحب «الأتاري» حين يركبها بجوار «سائقها» فإنه يجلس على مسافة عالية يُحدق عبرها في المشائين، ويصنّفهم بعد فرزهم في عملية روتينية جداً- هل يجوز لنا أن نسميها عملية آيخمانية؟- ليرى من يستحق أن يتم توقيفه، وحجزه، ومن هو أتفه من ذلك فيسمح له بالمرور، أي بالحرية. إنها لنعمة جانبية، وهي غير محمودة، في أن تكون تافهاً في نظر أحدهم، إذ إن الفئة الأكثر أماناً عند عبورها بجوار «الأتاري» هم «المجانين» بالطبع. لجيل دولوز مصطلح غريب قام بسك اسمه: «مفارقة الأرضنة» (Deterritorialization)، يجوز استعمال هذا المصطلح للتعبير عن تلك الحالة التي تُشعر صاحب «الأتاري» بالتفوق، بالتعالي عن الأرضي وعن كائناته. وهنا اقتبس عن بول فيريليو ما لم يقله عن صاحب «الأتاري» بالتحديد إنّما عن صاحب الآلة: «عندما فرض تطور علم السرعة فكرة وجود نوعين من الأجسام وفق وضعهما في الفضاء، فإنه فرض في الآن عينه فكرة نوعين من الأرواح: أرواح ضعيفة متقلّبة وهشة لأنها سجينة أرضها، وأخرى مقتدرة لأنها حررت إرادتها من كل قيد بفضل عدم تأرضنها».
لم تنتهِ المقالة بعد. هناك ما يُقال في مديح رمزية الإخضاع السلطوي للون الأزرق. من صمّم «الأتاري» خارج «البلد» قبل أن نستوردها منه كان موفقاً جداً في اختياره للون الأزرق. في «البلد» يبدو الأزرق لوناً سلطوياً بامتياز. فأماكن الشرطة جدرانها زرقاء، لباس السجناء أزرق، والختم الرسمي للبلد أزرق، وحين يتوعد أحدنا الآخر يقول له: «أنا هخلي ليلتك زرقا» حتى أنّ أخطر أنواع الجنّ قد صنّفه أبناء البلد أنه «الجنّ الأزرق».
أصبح المشاؤون في حالة خشية دائمة من الزرقة رغم كونها لون السماء، والبحر، وتشيلسي الإنكليزي، ومنتخبَي إيطاليا وفرنسا، ولكن اللون الأزرق في «البلد» بات اللون الأخير الذي تراه قبل العتمة. ولقد لوّنت عيون «الأتاري» شوارع البلد بالأزرق المرعب. في إحدى الأيام، كتب شاعر من شعراء «البلد»، وقد مات شاباً، وموته كان نتيجة القدر أو ربما القهر، تلك الأبيات عن الزُرقة، لقصيدة عنوانها «أزرق»، يحكي فيها عن أحد المشائين الذين قتلهم الخوف من الزُرقة وقرر أن يصرخ:
«وإن قال حرام يرموه في مكان
ميعرفوش الجنّ الأزرق
يبقى ليه الأحمر والأبيض في العَلَم؟
لمَّا هي لونها أزرق».