بغداد ـ زيد الزبيدي
العراقيّــــون لا يعدمــــون السخريـــة مـن معاناتهــــم... ولـــو فـي مجـالس العـــزاء



هنا في العراق، وفي عاصمة الرشيد بالتحديد، يكون سعيداً من يموت ميتة طبيعية، بل محظوظاً من يُقتَل بطلقة أو أكثر، فهو يذهب إلى القبر سليماً و«قطعة واحدة». لكنّ العراقيين لا يفتقدون لروح الدعابة، حتى في أكثر المواقف مأسوية؛ فهناك من يذهبون إلى عزاء أحد الأعزّاء، حيث ينطق بكلمات مواساة تتضمن عبارات مثل «الحمد للّه على سلامة المرحوم»... هذا إن كانت الوفاة طبيعية.
أمّا إذا كانت هناك شكوك حول طبيعة الوفاة، فالتساؤل يكون «هل توفّي المرحوم بالجملة أم بالمفرّق؟». وتبرير هذا النوع من التساؤل، هو أنه غالباً ما يتمّ تشييع القتلى العراقيّين هذه الأيّام بعد تجميع أجزاء جثثهم المتناثرة نتيجة التفجيرات الانتحارية والسيارات المفخّخة. ويُضاف إلى هؤلاء، العديد من المعتقلين أو المختطفين الذين يُفرَج عن جثثهم لاحقاً، فيستغرق تشريحها أياماً، ناهيك عن معاناة الأهل التي قد تستغرق أشهراً أو سنوات لمعرفة مجرّد خبر يفيد بأنّ من اعتُقل أو اختُطف لا يزال على قيد الحياة.
ويفيد آخر تقرير رسمي بأن «المعتقلين الأبرياء»، الذين أفرجت عنهم السلطات الحكومية منذ بداية تطبيق خطّة «فرض القانون» في 14 شباط الماضي، يزيد على 4500 شخص، بينما تفيد معلومات أنّ عدد المعتقلين في السجون الرسمية هو 120 ألفاً، عدا الموجودين في السجون السرية أو لدى ميليشيات الأحزاب.
ويرى مراقبون أن الأرقام في هذه الأحوال لا تعني الكثير، وأنها غالباً ما تكون كاذبة، وفي أحسن الأحوال هي مجرد «تخمينات»، وأن الحقيقة مغيّبة تماماً. وبحسب الناشط في مجال حقوق الإنسان وعضو اتحاد المحامين العرب فرحان عبد الكريم، فإنّ عدد الذين تمّ اعتقالهم أو احتجازهم منذ احتلال العراق في عام 2003، يزيد على المليون، بينما تقدّر بعض منظمات حقوق الإنسان عدد الذين قتلوا خلال هذه المدّة بأكثر من مليون أيضاً، وأن عائلة واحدة من بين ثلاث فقدت أحد أفرادها أو أكثر.
ويعلّق عبد الكريم على هذه المعطيات بالقول «هنيئاً لحكومات الاحتلال المتعاقبة هذه المنجزات الرائعة، لأن سجلات إنجازاتها لا تزيد على أعداد الجرائم التي تُرتكب بحق العراقيّين، وهؤلاء الحكّام عندما يتحدّثون عن القمع في زمن صدام حسين، وأنهم أتوا بالاحتلال ومعه لتخليص الشعب العراقي من حكم البعث، فإنهم يمارسون ممارسات النظام السابق من خلال تصفية البعثيّين من دون اعتقال أو محاكمات».
ويروي عبد الكريم إحدى شهاداته الحيّة التي اختبرها عندما كُّلف بالدفاع عن عدد من الضحايا الذين قتلتهم قوات أميركية وعراقية في الفلّوجة، ودمّرت مساكنهم وممتلكاتهم، للمطالبة بتعويضات تعادل تلك التي مُنحت لعائلات ضحايا حادثة لوكربي. ويكشف المحامي العراقي عن أنّ النتيجة كانت «رفض الدعاوى وتهديدي بالاعتقال»، غير أنّ تعويض الممتلكات تمّت تسويته سياسياً من خلال تقديم تعويضات شحيحة.
وتقول السيدة أم إيهاب، والدة أحد المفقودين على أيدي الشرطة العراقية، «لو كنت أعرف مكاناً لجثّة ولدي لاسترحت»، وهو الذي تقول إنه اعتُقل على أيدي مفرزة أمنية في الأيام الأولى لتطبيق «خطة فرض القانون»، مع العلم أنه «شاب متزوّج حديثاً، ولا دخل له في السياسة لا من بعيد ولا من قريب».
وتضيف الوالدة المفجوعة «لقد تطوّع أحدهم وأخبرنا أنه في أحد المقار الأمنية، وابتزّونا في مقابل مبالغ مالية ليرتّبوا لنا مقابلته، وفي كل مرّة كانوا يؤجّلونها، لتنتهي المسرحية بأن هناك تشابهاً في الأسماء». وتروي أم إيهاب بأنّ نهاية «المهزلة» كانت بقيام «أحد الخيّرين بالاستفسار عن نوعيّة سيارته ورقمها، وكشف لنا بعدها أن سيارته موجودة في وزارة الداخلية وقد صدّقنا الرواية، ولكنّنا عندما ذهبنا لم نجد شيئاً، واكتشفنا أنّ صاحب الشهامة والنخوة أخذ معلومات عن السيارة من قريب له يعمل في مديرية المرور، لغرض ابتزازنا لا أكثر».
وترى أم إيهاب أن الاعدام «أهون بكثير من الترقّب»، وتتساءل «حتّى لو كان ابني حيّاً، وأُطلق سراحه، فمن يعوّضني ويعوّضه ويعوّض والده وزوجته عن كل هذه المعاناة، وكل هذا الرعب الذي واجهناه؟».
بدوره، يقول السجين السياسي السابق في عهد صدّام، طالب حسن، «إن هؤلاء الذين يحكمون البلاد اليوم كمناضلين ليس من بينهم من دخل السجن أو الاعتقال في أي من العهود السابقة، بينما نحن السجناء لم نجد من يلتفت إلينا لأننا لسنا من ضمن الأحزاب التي أتت من الخارج».
ويضيف «الكلّ يعرف أنّ السجن مدرسة، وهو مدرسة، فالبريء أو المتّهم بجنحة بسيطة عندما يوضع مع عتاة المجرمين، يخرج ولديه استعداد للإجرام... فكيف يفكّر هؤلاء السياسيون بالوضع الذي يكون عليه مليون شخص معتقل، معظمهم أبرياء، أُودعوا المعتقلات وأقبية التعذيب غير المسبوق في عهد حكومات الاحتلال... فهل يخرجون شاكرين النعمة التي أسبغها عليهم السجانون عندما أطلقوا سراحهم؟».
ويختم حسن كلامه بحرقة قائلاً «لقد أصبح الموضوع في غاية السخرية، فالسياسيون يتحاورون ويتساجلون ويزايدون حول ما إذا كان يجب إطلاق الأبرياء من السجون من عدمه، من دون إعارة الاهتمام لأبسط القواعد القانونية والأخلاقية التي تحرّم اعتقال شخص من دون تهمة».

إن هؤلاء الذين يحكمون البلاد اليوم كمناضلين ليس من بينهم من دخل السجن أو الاعتقال في أي من العهود السابقة، بينما نحن السجناء لم نجد من يلتفت إلينا لأننا لسنا من ضمن الأحزاب التي أتت من الخارج