انطلقت على خشبة «دوار الشمس» عروض المسرحيات الصغيرة الثلاث لمشروع «أربعة أمتار مربعة للتحدّث» الذي تنظمه جمعية «شمس» سنوياً. برنامج يعطي منحاً إنتاجية لثلاث مسرحيات قصيرة، وفق شروط الاقتضاب السينوغرافي، وحصر الإخراج بأمتار قليلة، وضرورة احتواء النصوص على مصطلحات أبرزها: «بيروت بالليل، بيروت بالنهار، شمس، وغيرها». يناقش كل من العروض الثلاثة قضايا مختلفة حول المدينة، والثورة، والهجرة، وهي طروحات حسّاسة وشائكة. يبدأ برنامج العرض مع مسرحية «سلطة» (كتابة وإخراج: ليال غانم، هشام سعد، وسامر سركيس). التبولة تيمة العرض الأساسية. تدور الأحداث في المنفى الباريسي، بينما يحضّر كل من ابنَي العم، فيني ومنصور (تمثيل منير شليطا وعلي بليبل)، التبولة، وتتكشف الصراعات بينهما. على الأرجح هما شخصية واحدة، لوجهين مختلفين. يلعب الممثلان بجسديهما، وصوتيهما، وإيماءتهما، ويستخدمان تقنيات التهريج المسرحي، ما يخلق جوّاً كوميدياً. يُسجل على الممثلين الاستعانة بـ «الكليشيهات» في تعابير الوجه، ما أفقدهما الحس الكوميدي، في بعض الأحيان. صوتهما بدا واضحاً، لكنّ النص فقد، في أحيان كثيرة، صدق معانيه، لأنه لم يكن مترافقاً مع شعور داخلي. على مستوى الإخراج، كان الإيقاع سريعاً، وممسوكاً، حتى إنّ السينوغرافيا أدّت وظيفتها في السياق العام، الذي يطرح موضوع الهوية والأصالة عبر التبّولة.
في العرض، تتكشّف خيوط اللعبة الدرامية، مع تتابع الأحداث، حتى تُطرح سردية الشرق والغرب، والاختلافات بينهما. تبدو الطاولة الخشبية هي الفاصل بين العالمين، أو الشخصيتين، حتى إنّ الفضاء المسرحي، المحصور ضمن أمتار ضئيلة، مقسّم إلى عالمين: «شرق وغرب» حيث تتنوع في كل فضاء الأفكار والصراعات. يبدو «سلطة» محاولة لطرح مفهوم الهجرة، وعالمَي الشمال والجنوب، والبحث عن الأصالة، من وجهة نظر كتّاب العرض وتجاربهم الشخصية، ما أعطاه دفعاً صادقاً، في المجمل.
يكشف عنوان المسرحية التالية «بدي غيّر» (كتابة: ماريان صلماني، وإخراج: حمزة عبد الساتر)، خيوط اللعبة الدرامية، المتوقّعة قبل الدخول في العرض، أي الثورة في بيروت. تبدأ المسرحية بقرار صبيتين من بيئتين مختلفتين (تمثيل: ماريان صلماني وفاطو بزي)، المشاركة في احتجاجات بيروت. يبدأ العرض مع ذكر شخصيات خالدة في أذهان اللبنانيين، ومحاولة فاطمة لهدمها وتحطيمها، وهي فعل احتجاجي بحت. تنقد المسرحية «الريلز» وتبث دعاية استهلاكية حول «الفوط الصحية»، ما يخلط علينا أحداث العرض، الذي يحكي عن «ثورة تشرين». يحاول العرض نبش الماضي القريب، ومساءلة شكل الثورة، وتوقيت بدايتها ونهايتها. نترافق مع الشخصيتين في رحلتهما نحو ساحات الثورة، وتوقفهما عند محطات الطعام، ومحلات شراء الأعلام اللبنانية، و«وكيوسكات التاتو». الواضح أن العرض أخذ جزئية من كل ما حصل في تشرين عام 2019. جزئية تم العمل عليها، وتكريسها، حتى يبدو للجميع أنّ أغلب من شارك في الثورة، كان على هذا النحو، ما أضعف الحبكة الدرامية. من هنا لا بدّ من التساؤل: هل يمكن معالجة الثورة على هذا النحو؟ هل يمكن أن تقدم هكذا ضمن القوالب الجاهزة (الكليشيهات)؟
الاختتام مع مسرحية «بالهوا سوا» (كتابة: جورج عبود). تعلّق نجمة (لما مرعشلي)، التي تعيش أجمل لحظات حياتها، مع بدر (سامر سركيس)، في مصعد في إحدى بنايات بيروت، بعد عودتهما من مختبر للتحاليل الطبية. تجسّد لما مرعشلي شخصية متطفّلة، لجوجة، مضحكة في أحيان كثيرة، تتمتع بحسّ فكاهي عالٍ، وقدرة على اللعب بأدواتها الصوتية، والحركية، والانفعالية، بكل عفوية وسلاسة. يجسّد بدر، النقيض من ذلك كله، لديه فوبيا المرتفعات، وقد تنبّأ للتوّ خبراً غير مفرح، نكتشفه في النهاية. يشكّل المصعد، بداية المأزق، ونهايته. يتكشّف تاريخ الشخصيتين، اللذين يكون القاسم المشترك بينهما هو خيانة الشريكين لهما. في خضم صعوبة الموقف، يتحوّل المصعد إلى مكان للتشافي وإيجاد الحلّ. الخط الدرامي متين، وصوغ الأحداث وتداخلها، يبدو ممسوكاً. تستمر اللعبة بين الشخصيتين، حتى تأتي النهاية مأساوية، وغير متوقّعة. الموضوع حسّاس، من المهم طرحه، ولا بدَّ من إيصال الأفكار حوله، والتوعية بشأنه. لكن النص بدا وعظياً وإرشادياً، ومترافقاً مع التمثيل الذي فقد شيئاً من جودته في النهاية، بفعل الوعظ. لكن لا بدّ من القول، بأن «بالهوا سوا» تبدو الأكثر متانة من حيث النص، والتمثيل، والإخراج.
في المحصّلة، الواضح أن شروط المنظّمين والمموّلين، قد تكون أثرت على جودة الأعمال وقيمتها الفنيّة، تحديداً الوقت القصير المعطى للمشاركين لإنتاج أعمالهم، والتمرّن عليها، وتحويلها من النص إلى الخشبة. عناوين المسرحيات، في دورة هذا العام، تبدو ركيكة، والمسرحيات كلها كوميدية، ما يطرح علامات استفهام عن خيارات الجهة المانحة بعدم تنويع الأعمال المشاركة. لا يمنع ذلك من قول إنّ لحظات عفوية وصادقة ومضحكة رافقت الجمهور في المسرحيات الثلاث.

«أربعة أمتار مربّعة للتحدّث»: حتى غدٍ الأحد ــ الساعة الثامنة والنصف مساءً ــ مسرح «دوار الشمس» (الطيونة ــ بيروت). البطاقات متوافرة في «مكتبة أنطوان».