يعد عمل «الإسكوا»، كهيئة اجتماعية اقتصادية لغرب آسيا في الأمم المتحدة، استشاري الطابع عموماً. فالدراسات والتوصيات التي تخرج بها هذه الهيئة لا تلزم أياً من البلدان المعنية بتنفيذ ما يرد بها. إلا أن بنية الهيئة الوظيفية، والتي يضم كادرها بيروقراطية عربية تحتكم إلى موازين القوى الإقليمية وتوزيع النفوذ بينها داخلياً والباب الدوار بين مسؤولين من دول عربية مختلفة وأروقة «الإسكوا»، وتشبيك العلاقات بالمنظمات والهيئات والمنظمات العربية الاقتصادية، يجعل من دراسات «الإسكوا» وتوصياتها أداة فعّالة لنشر إجماع مؤسسي وأكاديمي حول ما يعتبر رؤية للتنمية والنهوض الاقتصادي، وهو خطر بدوره، لأنه يعيق تخريج أي نخبة فكرية مستقلة تجترح الحلول من خارج هذا الصندوق.المشكلة في هذه الرؤية أنها خارجة من رحم صندوق النقد الدولي وبالتعاون معه، ومضبوطة ضمن قالب أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة التي، رغم العناوين والألوان البراقة، تمثل أدوات تكبيل وتدمير ممنهج لاقتصادات العالم الثالث. ما تنتجه «الإسكوا» هو بروباغاندا للهيمنة الاقتصادية العالمية، تمتثل لها الدول طوعياً تحت ادّعاء أن هذه دراسات تنموية موضوعية خارجة من رحم دول المنطقة ولأجلها.
بالنظر إلى موقع «الإسكوا» الحالي، هناك عدد من المواضيع اللافتة، منها موضوع الربط الإقليمي بين الدول العربية الذي يُعد من أساسيات التنمية الاقتصادية لأي إقليم. تركّز الدراسات في هذا الشأن على العلاقات التجارية واتفاقيات التجارة العربية - العربية والعربية - الدولية، خصوصاً مع الاتحاد الأوروبي، فيما تهمل تنمية العلاقات التجارية العربية مع المحيط الآسيوي والأفريقي. كما لا يظهر على الأجندة تخطيط مشاريع سكك الحديد داخل الدول العربية وبينها، أو خطوط للنقل الإقليمي بين هذه الدول. وبالنظر إلى اتفاقيات التجارة وشروطها التي تنخرط فيها الدول العربية مع المركز الغربي لرأس المال والصناعة، وتشجع دراسات «الإسكوا» عليها، تظهر الرؤية الاقتصادية في هذا الشأن أقرب ما تكون إلى اتفاقيات التجارة الاستعمارية الكلاسيكية، حيث يضمن المتروبول أسواقاً مفتوحة لصناعاته من دون قيود ضريبية أو جمركية، ويؤمّن لنفسه مصادر رخيصة للمواد الخام والزراعات المكلفة من مستعمراته السابقة، عبر بنية تحتية وشبكات نقل واتّصال مصممة لاستخراج الثروات والتصدير. هكذا يُفهم إهمال دراسات «الإسكوا» الربط الإقليمي وأي خطط فعلية لهذا الربط.
أما في ما يخص إدارة القروض، فتتعاون «الإسكوا» في هذا الشأن بشكل مباشر مع صندوق النقد الدولي لبث نصائحه للموت غير الرحيم. في ورقة عن ديناميات الدين في الدول العربية والتمويل من قبل البنوك المركزية مثلاً، يتم الترويج لسياسات تدمير ذاتي تشمل عدم تشجيع البنوك المركزية على التدخل، ولجم التضخم الناتج عن أزمة كورونا مباشرة بحصره ضمن أدوات، مثل شراء البنوك المركزية لسندات الدين أو خفض الفائدة وخفض الاحتياطي الإلزامي للمصارف التجارية لتشجيعها هي الأخرى على شراء السندات. التوجيه الأهم، هنا، هو إبعاد الدول العربية عن أي دور مركزي في السيطرة على التضخم وسعر صرف العملات المحلية، وهو مسلك تقر الورقة بأنه كان معتمداً من قبل الاقتصادات المتقدمة.
مسار آخر تدفع النخبة المالية العالمية دول الجنوب فيه نحو الهاوية، هو سياسات التنمية الخضراء التي تكبّل الاقتصادات النامية برفع كلفة الطاقة والمدخلات، وترفع من كلفة من الصناعات، ما يضمن بقاء دول الجنوب في الدرك الأسفل من منظومة الإنتاج العالمي.
خطورة هذه السياسات، كأدوات هيمنة وتأخير صناعي، تبدو واضحة اليوم حتى في الاقتصادات المتقدمة، كما هي حال ألمانيا التي تخلت عن قدرتها على توفير طاقة نووية رخيصة لصناعاتها ودورها كمصدر للطاقة الكهربائية في القارة العجوز، تلبية لجماعات الضغط الخضراء المعروفة بارتباطها الوثيق بالأميركيين. اليوم، تعاني ألمانيا هشاشة في القدرة على تأمين الطاقة لصناعاتها، ما يؤدي إلى تفكيك صناعات وهجرة الكثير منها إلى الحليف الأميركي.
استطاعت المؤسسات الدولية، ومنها البنك الدولي ونخبة دافوس، أن تجعل من سياسات الاستدامة مسلّمة مطلقة الخير، تفرض على الدول من خلال شبكة المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة ومنظومة أهدافها المقولبة لهذه الألفية، ما يجعل من انتقادها أمراً منافيا لطبيعة العصر وشديد الاستهجان. ولكن، كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في معرض رده مرة على الناشطة غريتا ثونبيرغ (كانت طفلة في ذلك الوقت)، بأن العالم الحديث معقد وأن الناس في كثير من البلدان الآسيوية وأفريقيا يريدون أن يكونوا أغنياء كالناس في السويد، ولا يمكنهم تحقيق ذلك بالطاقة «النظيفة». الترويج لهذه السياسات من قبل «الإسكوا» لا ينحصر بالترغيب المباشر، بل يتعداه إلى التوريط عبر تقديمها كحل للتخفيف من الديون.
الجدير بالذكر أن ما تقوم به «الإسكوا» اليوم يخرج على ما نص عليه ميثاقها التأسيسي، عندما كان هناك توازن قوى دولي انعكس اتّزاناً ايديولوجياً، وأنتج أبحاثاً ودراسات أكثر ملامسة للواقع وقضاياه الملحة. إلا أن هذا التوازن سقط مع جدار برلين، وكان له طابع خاص في «الإسكوا»، حيث أُدخل السلام كعامل للتنمية.
تتعاون «الإسكوا» في ما يخص إدارة القروض بشكل مباشر مع صندوق النقد الدولي لبث نصائحه للموت غير الرحيم


تضليل آخر تمرره هذه الدراسات، هو تمحورها حول تحقيق المساواة الجندرية بطريقة تغلّب فيها هذه المساواة على القضايا قيد البحث أساساً. فما الذي تستفيده مجتمعات مفقرة ومنهوبة تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة إذا ما ترأست مؤسساتها الكبرى نساء بدلاً من رجال فاسدين، ومرّرن السياسات والتوصيات القاتلة ذاتها بلا رحمة؟ أو كما يقول علي القادري، في كتابه «تفكيك الاشتراكية العربية»: «يؤدي ارستقراطيو الطبقة العاملة أدواراً مختلفة. لكن على المستوى العام، غرضهم كمحاورين لرأس المال هو تضليل الشعب العامل بفكرة الديموقراطية البرجوازية، وتوسيع الهوة بين الكائن الاجتماعي والوعي الاجتماعي، بوضع الهوية فوق الطبقة». وبحسب القادري أيضاً، هذا التلاعب لا يتوقف عند تشويه أوجه الصراع فحسب، بل يشمل تشويه الأرقام… فتصبح الخديعة أكثر حيادية وعلمية.