مع استفاقة اللبنانيين أمس على خبر نيّة إقفال «تلفزيون لبنان»، غرق هؤلاء في حالة عارمة من الحنين إلى العصر الذهبي للشاشة الوطنية، بصرف النظر عن واقعها المأسوي والمطبّات التي طبعت رحلتها التي بدأت قبل 64 عاماً. وراح روّاد مواقع التواصل الاجتماعي يستذكرون محطات مفتاحية ونجوماً وثنائيات درامية (هند أبي اللمع وعبد المجيد مجذوب، إلسي فرنيني وجورج شلهوب، محمود سعيد وسميرة توفيق، سمير شمص ونهى الخطيب...) رافقت سهراتهم، أيّام الدهشة الأولى أمام الصندوق الصغير!من منطقة تلّة الخيّاط البيروتية، وُلد «تلفزيون لبنان» عام 1959 تحت اسم «شركة التلفزيون اللبنانية»، كجزء من القطاع الخاص الذي كان يحظى برعاية الرئيس كميل شمعون، في إطار «سياسة الحداثة والانفتاح على العالمَين العربي والمشرقي» الذي كان يسعى إليهما. يومها، كان للدولة حقّ رقابي على أخبار هذه المحطة وبرامجها، بموجب اتفاق مع وزارة الإعلام. أما المساهمون في الاستثمار، فكانوا فرنسيين بطبيعة الحال، في بلد كان لا يزال فيه للانتداب تأثير قوي عليه، على الرغم من انتهائه. هكذا، أبصر النور في لبنان أوّل تلفزيون في العالم العربي، رغم أنّه سبقت ذلك بعام واحد تجربة بثّ تلفزيونية محدودة في العراق، لكنّها لم تدم طويلاً.
شهدت الشاشة أوّل قُبلة بين نضال الأشقر وفؤاد نعيم في مسلسل «نساء عاشقات» (1974)

تحت مظلّة «شركة التلفزيون اللبنانية»، كانت هناك قناتان: التاسعة (فرنكوفونية) والسابعة (ناطقة بالعربية). الأخيرة اشتهرت بتقديم البرامج العربية الشعبية، وأطلقت الجيل الأوّل من الفنانين والنجوم اللبنانيين الذين استحالوا أيقونات، من بينهم «أبو ملحم»، و«أبو سليم»، وإيفيت سرسق...
في عهد الرئيس فؤاد شهاب عام 1962، افتتحت مجموعة من رجال الأعمال والمصرفيين محطة ثانية في الحازمية (قضاء بعبدا)، أطلقوا عليها اسم «تلفزيون لبنان والمشرق» (Télé-Orient)، جاءت على شكل استثمار بمساهمة أميركية ــ بريطانية هذه المرّة. وكانت هذه بداية التحوّل «من الفرنكوفونية إلى الأنغلوفونية في لبنان، وسط اهتمام الدول الغربية بالاسثتمار في التلفزيون في لبنان، لأنّه بالنسبة إليهم يمكن لهذا البلد أن يشكّل منطلقاً لهم إلى العالم العربي، في زمن كانت فيه بيروت مركزاً تجارياً أيضاً»، يقول الإعلامي زافين قيومجيان لـ«الأخبار».
زافين الذي أصدر قبل سنوات كتاباً مرجعياً بعنوان «أسعد الله مساءكم... مئة لحظة صنعت التلفزيون في لبنان» (هاشيت أنطوان)، يلفت إلى أنّه مع افتتاح «تلفزيون لبنان والمشرق» بدأ الصراع بين المحطتين: ««تلفزيون لبنان والمشرق» يهتمّ بالانفتاح على العالم العربي، فاعتمد العربية الفصحى واللهجة البدوية في برامجه... وبدأ صعود برامج الـ«بان أراب»، فيما خلقت أسطورة المسلسل اللبناني الذي يغزو العالم العربي ووُلِد نجوم من أمثال هند أبي اللمع، ونهى الخطيب سعادة، وسميرة بارودي، وعبد المجيد مجذوب، ومحمود سعيد، وغيرهم».
انتشار هؤلاء في العالم العربي أسهم في تعميم الثقافة اللبنانية هناك، بما في ذلك الإنتاجات البدوية («فارس ونجود» الذي جمع سميرة توفيق ومحمود سعيد مثلاً). كما استقطبت هذه المحطة أسماء عربية، مثل السوري دريد لحّام الذي أطلق أسطورة «غوّار الطوشة» من الحازمية.
إذاً، شهدت البلاد حينذاك منافسة بين شاشتين، إحداهما كلاسيكية وملتزمة بالرقابة العربية (لناحية الملابس والمواضيع...) في الحازمية، والثانية هي القناة السابعة في تلّة الخياط التي كانت تتمتع بحرّية أكبر لتكون «تجريبية ورائدة» على صعيد المواضيع. هذا ما يؤكده قيومجيان، مشيراً إلى أوّل قُبلة في التلفزيون في العالم العربي وآسيا، جمعت بين نضال الأشقر وفؤاد نعيم عام 1974 في «نساء عاشقات» (إخراج سمير نصري). أما المواضيع التي كانت تُطرح في الإنتاجات، فكانت ذات طابع محلي أكثر، كما في برامج «أبو ملحم» و«أبو سليم» وأنطوان غندور («أخوت شاناي» و«بربر آغا»...).
اشترت الدولة الأسهم من الحريري وصار التلفزيون مملوكاً لها


استمرّت المنافسة على أشدّها، إلى أن اندلعت الحرب في عام 1975. عندها، بسطت ميليشيات كلّ من المنطقتين سيطرتها على الشاشة العاملة في كلّ منهما، فتضرّر أصحاب التلفزيونات (القطاع الخاص) الذين أعلنوا انسحابهم في وقت أتى فيه موظفون جدد. وقعت محطة الحازمية تحت تأثير الأحزاب المسيحية المسيطرة هناك يومها (أمين الجميّل ثم ميشال عون)، بينما كانت محطة تلّة الخيّاط تحت تأثير القوى الوطنية والإسلامية.
في بداية عهد الياس سركيس، بعد حرب السنتين (1977)، رأى الرئيس أنّه «تأكيداً على انتهاء الحرب، لا بدّ من توحيد الشاشة الرسمية لتكون ناطقاً باسم الشرعية اللبنانية. وعبّر عن رغبته في أن يصبح شريكاً في التلفزيون وإبعاد الميليشيات المسيطرة»، وفق زافين. عندها، تأسّست شركة جديدة اسمها «تلفزيون لبنان». وكانت هذه المرّة الأولى التي تكون فيها الدولة شريكة في الإعلام المرئي في لبنان (51% من الأسهم في مقابل 49% موزّعة بين أصحاب محطّتي الحازمية وتلّة الخيّاط). لغاية ذلك الوقت، لم تكن الدولة تملك إلا «الإذاعة اللبنانية» التي كانت شبه مقفلة بفعل الاقتتال الداخلي. حاول سركيس كثيراً العمل على إنجاح مساعيه لتوحيد الصفوف، غير أنّها باءت بالفشل مع استمرار اشتعال المدافع.
مع «انتفاضة 6 شباط» في 1984 وانقسام الجيش اللبناني، تكرّس الانقسام بين المحطتين: «إحداهما صار اسمها «البرنامج الأوّل» (تقع في الحازمية ووضعها المالي جيّد، وتعرض إنتاجات أميركية وما شابه) والثانية «البرنامج الثاني» (تقع في تلّة الخيّاط وتعرض أعمالاً قديمة بنكهة عربية)».
أمام هذا الواقع، وتحديداً في 1985، أنشأت «القوات اللبنانية» قناة «أل بي سي» لتكون «الناطقة باسم المنطقة الشرقية، بما أنّ تلفزيون الحازمية لا يعبّر عن كلّ المسيحيين، بل فقط عن أمين الجميل وحكومته برأيهم»، يضيف زافين، متابعاً: «رويداً رويداً، لاحظت القوى المسيطرة في غرب بيروت ضرورة إنشاء محطة جديدة، فكان «تلفزيون المشرق» (زاهر الخطيب) الأكثر انفتاحاً».
استمرّ الوضع على هذا النحو إلى أن حلّ الشرخ الكبير (سياسياً وإنسانياً) عام 1988 مع قدوم ميشال عون الذي أتى بجيل جديد من الموظفين على قناة الحازمية، تزامناً مع وجود جيل جديد في تلّة الخياط أيضاً. شهدت تلك الفترة سابقة في تاريخ هذا الصرح الإعلامي، إذ كانت المرّة الأولى التي يدخل فيها التلفزيون في الحرب الأهلية كطرف ورأس حربة في المواجهة والبروباغندا، مع إعلان عون «حرب التحرير» و«حرب الإلغاء» من الحازمية، علماً أنّ «حرب التحرير» دفعت «تلّة الخياط» إلى خوض حرب مع «الحازمية»، في الوقت الذي تحاربت فيه «أل بي سي» و«الحازمية» في «حرب الإلغاء».
في بداية التسعينيات، ومع وقوع أحداث مثل «اتفاق الطائف» و«حرب الخليج»، تعرّف اللبنانيون على شبكة «سي أن أن» والأقمار الاصطناعية، وصاروا يريدون أمراً مشابهاً. شهد هذا العقد فورة من القنوات التلفزيونية في بيروت والمناطق، واستمرت إلى أنّ تولّى رفيق الحريري رئاسة الحكومة في 1992، والذي اتّضح أنّه اشترى في السنوات السابقة أسهم مالكي «الحازمية» و«تلة الخياط». وجوده على رأس السلطة التنفيذية وبدء عملية إعادة الإعمار واستحواذه على الأسهم التي تشكّل نسبة 49 في المئة، منحته أفضلية خلقت احتقاناً بينه وبين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الجمهورية الياس الهراوي المعترضَيْن على تأثيره الكبير.
في هذا السياق، يشير زافين قيومجيان إلى أنّ «الترويكا الحاكمة بعد الطائف ارتأت بدء إعادة استعادة الشرعية من حلّ الميليشيات وجمع السلاح وتنظيم الإعلام المرئي والمسموع، عبر تقوية «تلفزيون لبنان»، في مقابل إقفال شاشات غير شرعية وغير مرخّصة». مع انهيار الاتحاد السوفياتي وسيطرة الثقافة الاستهلاكية وانتشار العولمة، عاش لبنان فورة التلفزيونات الخاصة غير الشرعية.
هكذا، ضخ الحريري أموالاً ووفّر كل الإمكانات لـ«تلفزيون لبنان» ليكون محطة، تزامناً مع عمل وزارة الإعلام على وضع قانون إعلام لحلّ الفوضى الإعلامية خلال مدّة ستّة أشهر. لكن هذا لم يحدث «لأنّنا دخلنا في دوّامة المحاصصة». صحيح أنّ القانون قائم على المحاصصة، لكن أهميته تكمن في أنّه كان أوّل قانون للإعلام المرئي والمسموع في العالم العربي، كما وضع حدّاً لأزمة إعلامية كبيرة. ومع صدوره، اشترت الدولة الأسهم من الحريري وصار التلفزيون مملوكاً لها مئة في المئة.
في التسعينيات أيضاً، استطاع فؤاد نعيم الذي كان يرأس مجلس إدارة الشاشة الوطنية ويشغل منصب مديرها العام، بسياسته المرتكزة على صناعة أسطورة الدراما اللبنانية وتحويل المؤسسة إلى عامة كنموذج «هيئة الإذاعة البريطانية، خلق الموجة الجديدة من المحتوى المرئي. موجة تجسّدت في برامج بروح جديدة مثل «5 على 7»، واسكتشات كوميدية لشربل خليل بعنوان «تقرير»، وأعمال درامية («العاصفة تهبّ مرّتين» و«نساء في العاصفة»)، وغيرها أعادت العصر الذهبي لهذه المؤسسة، مع رولا حمادة وفادي إبراهيم وورد الخال وكارول عبود وغيرهم. ويرى زافين أنّ «صدور قانون الإعلام المرئي والمسموع أسقط «تلفزيون لبنان» كشاشة وطنية بسبب المحاصصة، وصارت الشاشات الخاصة تستقطب السياسيين وضربت المحطة الرسمية لأنّها لم تعد صانعة للخبر».
ومع دخول عالم البث الفضائي، صار «تلفزيون لبنان» متأخّراً عن باقي المحطات، وصار عائقاً أمام الدولة التي تموّله، وهو ما أدّى إلى توقيفه لأشهر عدّة بقرار من وزير الإعلام آنذاك غازي العريضي في 2001. غير أنّه لغاية الآن لا يزال «لزوم ما لا يلزم» في دولة يبدو أنّها لم تعد موجودة أساساً.