إلى الياس خوري
ثمّة علاقات مُستحيلة عن قرب. لكن، في كل حكاية، يمكنك العثور على ما هو جميل في الآخرين. والودّ ليس شرطه التواصل كما يروي الدجّالون. وفي البعد فضيلة، كأن تختار ما يوسع نقاط الضوء في قلبك، ويسمح لك بافتعال حوارات، ولو كانت على شكل سجال مباشر.
بوسعك حفظ مسافة تمنعك من رمي الطين فوق أرض لها رسوماتها الأصلية. ويمكن لك أن تتمنى طول العمر لحفاة يتصلون بالأرض من دون وسيط، لتراهم يحرثون هذه الأرض، ويعيدون الصورة إلى أصلها.
ومثل كل شيء في هذه الحياة، فأنت تختار اللغة الأقرب إلى عقلك، كما تختار الموسيقى التي تجرّك راضياً مَرضيّاً، نحو الأمكنة الضيقة التي ترتاح فيها، كذلك هي كلماتك، وإن كتبتها على عجل، لأن الساعي لا يتحمّل الانتظار. فكل بعثرة أو ارتجاف لا يلغيان وضوح النص. حتى السنوات التي تطحننا كل ثانية، هي نفسها التي تُعيد ترتيب أدوات العقل فينا. وعندما تصبح الخطوات هادئة، فهذا ليس دليلاً على حكمة، بل طريقة جديدة في إعادة رسم الصورة، لأن في آخر العمر حيلتنا الكبرى لتخيّل الخاتمة.
والعُمر مهما رفع من شأن هذا الفرد، يبقى المولود هو ذاته، ابناً حقيقياً لهذه الأرض. وكل ما خبرته في عمرك، مهما طال، لا يمنحك قوة الإقناع. وعندها تعرف أنك لست من يقدر على رسم الدروب للناس. والحكايات التي ترويها، محتالاً على الوقائع، لن تسعفك في محاولاتك المستمرة لإقناع فتية بعدم ارتكاب ما تراه معصية.
ألم تسرّ إليك نفسك بأنّك لست مسؤولاً عن رسم الطرقات للناس؟ ألم تقنعك التجربة باستحالة نقلها إلى الآخرين طوعاً أو حتى غصباً؟ ألم تعلّمك الأيام أن الحياة مسكونة بتعويذة نافس فيها إبليس كل الأنبياء وكاد أن يهزمهم؟ ألم تشعر بأنه حان الوقت لتحمل كل ثقلك، وترتفع فوق كل هذه الحرائق، لكنّ عينيك تحدّقان في المنارة الثابتة التي تبقى وحدها دليل المسافرين إلى رصيف فلسطين!
مُنذ رسمت المقاوم في معتقل أنصار، وهو يسقط ككمشة ثياب مجعلكة، إلى يونس الذي كان يركب الغيوم، ويبقى القمر دليله إلى حيث أودع قلبه. حتى قهرك على وحدة تتكثّف مع غياب الأحبة والأصدقاء... كل ذلك، لم يجرح نضارة حبّك لفلسطين!
سألت كثيراً كيف ينتهي الحب، ورفضت نصيحة الدرويش الذي وجد في أول الحب ما يستحقّ الحياة، وأعدت رسم نفسك مراراً وتكراراً، لكنك تقاوم فكرة اكتمال صورتك. هكذا هي حال الناس مع فلسطين، مثل قمر، يجتهد منذ وُلد، من أجل رسم وجه من يحب، وكل الفشل الذي منعه من تحقيق مجده لم يثنه عن تكرار المحاولة!
أما ثقل الأسئلة الكبرى فلا قدرة لجسد على تحمّله. الشعر والأدب حيلتان ترفعان من وهم التحايل على الحقيقة، وتسمحان للسائل بأن يقرع كل الأبواب المُوصدة، تُفتح لبرهة، قبل أن ينتفض جسدك، برعشة من جوع أو قهر أو ألم، فتعود لتجد نفسك مرمياً في فخّ الواقع الدامي.
ها أنت جرّبت الكثير، وتريد أن تجرّب كل شيء. فتختار لكل نهار عشيقة، وترسم وجهها كما تشتهيه، لكنك مسكون، كما الذين سبقوك، بهاجس الامتلاء. وحدها فلسطين، تتيح لك كل أنواع العشق. هي الأم التي تأتي مرة واحدة ولا تجد لها توأمها ما حييت. ترافقك أينما ذهبت، تقفز فوق أحرفك، في العمل والمقاهي والحانات، وكلما أخذت نفساً، ونظرت إلى أقصى القوم، تجدها منتصبة، باسمة، وتلفّها الرياح ألف مرة، لتعود على هيئة فلسطين، ذلك الثوب الذي تحتاج إليه أنت، وكذلك الآخرون، فهو الكساء الباقي عند نقطة النهاية!
تبقى فلسطين أكثر الجدران صلابة. والغزاة لا يفلحون بأكثر من إحداث ثقوب ينظرون منها، علّهم يجدون أثراً للوهم الكبير. وهي الأم التي لا تئنّ من أوجاعنا، وتبقى حيلتنا الحلوة، ومغامرتنا التي لا تشعرنا بتقدم العُمر، ولا بتعب الأيام. وهي علاجنا الحقيقي، وسط غابة الأوبئة المسماة على شكل عقائد ومذاهب وأفكار...
ولفلسطين رفيقة، حالفك الحظ بأن وُلدت فيها، هي بيروت المُستعدّة للتبرّج كل صباح، بانتظار عاشق أو زائر أو عابر سبيل. هي اختبار النقاء في دماء من يدّعي أنه الأفضل... هي المسرح الحقيقي لكل اللاعبين، وهي الرواية التي لم تُكتب بعد. هي الحديقة التي تسكنها وتنام مُطمئناً، غير خائف من غضب الله...
قم وانهض،
وخذ نفساً عميقاً، وانْزِعْ عن جسدك كلّ الأثقال البالية، وانفض غبار الصدامات التي لا تنتهي، واقصد جنوب مكانك، وانظر إلى الشمس، ترقص فرحة بقرب موعد المستحيل الكبير...
قم وانهض،
واجمع حاجَات الرحلة الأجمل، ولا تسأل عن سائق الباص، وستجد إلى جانبك من هم أهل الأرض، يجمعهم قلق القبلة الأولى.
قم وانهض،
لملم نفسك، واستعد للركض خلف شباب سيعبرون حتماً إلى حيث تنتظر كل واحد منهم ريتا الجليل!
قم وانهض،
واصرخ بوجهك في المرآة، وافْرُكْ عينيك، وتحسّس جسدك بقوة... واحمل ريشتك، واستعدّ للمفاجأة، لأن فلسطين وحدها، ستنفي عن الحلم صفة المُستحيل!