بعدما كانت سرقة سياج حديدي من المقابر أو أسلاك كهربائية أو مضخات مياه لبيعها مقابل بضعة دولارات «موضة»، وجرائم النشل وتهريب المخدرات والسرقة «بزنِس عائلياً»، وبعدما نمت عصابات منظّمة تقوم بعمليات سطو مسلح وخطف وقتل، تراجعت نسب جرائم القتل والسرقة والنشل وفقاً لإحصاءات قوى الأمن الداخلي خلال الأشهر السبعة الأول من السنة، ونشطت جرائم الاتجار بالبشر والتحرّش والاستغلال الجنسي للأطفال، وأخيراً «القتل المأجور».هذه الأنواع من الجرائم تحتاج إلى استجابة سريعة من الدولة ومعها أجهزة إنفاذ القانون التي تعمل باللحم الحيّ لتكثيف جهودها وقدراتها، إضافة إلى ضرورة رفع الوعي المجتمعي بأهمية التمسّك بالقيم الأخلاقية والقواعد الاجتماعية الرادعة.
من جرائم تعنيف الأطفال في حضانة Garde rêve، في منطقة الجديدة، وجرائم تحرش ودعارة وبيع أطفال في جمعية «قرية المحبة والسلام»، وجرائم تحرش واغتصاب وتجويع في «بيت اليتيم» ورمي الأطفال في الشوارع وغيرها من جرائم مشابهة شهدها المجتمع اللبناني أخيراً، يبدو أن الآتي أعظم في بلد يرزح تحت وطأة أزمات اجتماعية واقتصادية معقدة، ويتخبّط سياسياً وطائفياً، ضمانته الوحيدة روابط أسرية رادعة وقيم اجتماعية وقواعد سلوكية أخلاقية مهددة أيضاً بالتدهور في ظل الانحلال الأخلاقي الذي بدأ يعصف في المجتمع.
وترتكز مناقشات عدة وتقارير حول الجريمة على ما يمكن لقوى إنفاذ القانون ونظام العدالة الجنائية القيام به. علماً أن تطبيق القانون يلعب دوراً أساسيّاً في الحدّ من الجريمة، لكن غالباً ما تكون هناك تحديات ومشكلات أعمق لا تستطيع الشرطة معالجتها، كالتضخم والأزمات الاجتماعية وتداعيات أزمة النازحين وغيرها. إذ تطرح التغييرات الاجتماعية والانهيار الاقتصادي والعولمة والتكنولوجيا تحديات تمتد إلى ما وراء مناهج منع الجريمة التقليدية.
مع التقدم التكنولوجي وظهور أشكال جديدة من الجريمة، خلقت فرصاً جديدة للمجرمين كسرقة الهوية، والابتزاز الإلكتروني، وغسيل الأموال، والتنمّر وغيرها... يشهد لبنان تغييرات في ممارسات وأساليب ارتكاب الجرائم. حيث تطورت طبيعة الجرائم لتأخذ وجهاً آخر يواكب الصعوبات المالية والاقتصادية، وتزدهر مع التسرّب المدرسي و«فلتان» الأطفال في الشوارع.
لا شك في أن الطرق التي بدأ يلجأ إليها المجرمون لجني الأرباح أصبحت أكثر «إبداعاً». فلم تعد تقتصر السرقات على الأموال والمجوهرات والسيارات، بل تشمل كل ما له قيمة مالية بما في ذلك البنية التحتية. والخطير، هنا، أن الأساليب التي تعدّت سرقة الممتلكات العامة والخاصة، وصلت إلى حدّ القتل مقابل أرباح مادية. فقد صدر أخيراً بيان عن قوى الأمن الداخلي يشير إلى توقيف قاتل مأجور نفّذ جريمة قتل في بلدة عين عنوب مقابل مبلغ مالي وليرات ذهبية، ما يُنذر بالأخطر، فجرائم «القتل التعاقدية» تميل إلى الازدهار في بيئات الجريمة المنظّمة، حيث تستخدم الشبكات الإجرامية قتلة مأجورين لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية وجنائية، وبالتالي تُمكّن الفاعلين من حفظ سيطرتهم على المجتمعات.
في حين أن لكل شخص أسبابه الفريدة وظروفه الحياتية الخاصة التي تدفعه نحو السلوك الجنائي، إلا أن الأزمة الاجتماعية تفرض نفسها بقوة على طبيعة الجريمة في لبنان. فمع ازدياد معدلات الفقر والبطالة وارتفاع نسب التسرّب المدرسي، ينتشر الأطفال في الأزقّة والشوارع وفي الأحياء الموبوءة التي يمكن أن تؤثر سلباً على قيمهم الأخلاقية وتزيد من احتمال انخراطهم في الأعمال الإجرامية أو وقوعهم ضحايا لجرائم العنف والاستغلال الجنسي.
إذ تهيّئ الشوارع في لبنان كل ما يحتاجه الـ«بيدوفيل» لتنفيذ جرائمهم وممارسة فجورهم، حيث ينتشر الفتيان والفتيات القصّر لبيع المناديل الورقية أو الورود بين السيارات عند الإشارات الضوئية، معرضين أنفسهم لخطر التحرش الجنسي، بينما يقع البعض الآخر في فخ الدعارة. (راجع «القوس»، إنفوغرافيك، «بيدوفيليا»).
ومع ازدياد أعداد الأطفال والمراهقين في الشوارع والانهيار الاقتصادي المستمر ولجوء البعض إلى «التطنيش» عن السلوكيات غير الأخلاقية والجرمية مقابل مردود مالي، هل سيصبح لبنان بيئة خصبة لجرائم المضطربين جنسياً؟
تقبّل الآخر لا يعني أن يتقبّل الفرد سلوكيات الآخرين التي يعدّها خاطئة، إنّما أن يتقبّلهم كبشر لهم الحق في الحياة والاحترام (راجع «القوس»، 27 آب 2022، «مشكلة عدم تقبّل الآخر»)، لكن الانفصال عن المعايير الأخلاقية والدينية الرادعة وتحوير المفاهيم والقواعد الاجتماعية سيؤدي إلى ارتفاع متزايد في الجرائم.
«قالو للكذّاب إحلف قال إجا الفرج» ينطبق هذا المثل الشعبي تماماً على الواقع في لبنان. فالفرج عند بعض اللبنانيين يكون عبر إصدار أحكام مسبقة «مبرمة» في أي جريمة يمكن استغلالها في إطار تحريضي وطائفي عبر إطلاق اتهامات سياسية بحتة، من دون اللجوء إلى الإجراءات القانونية الواجبة والتحقيقات العلمية الدقيقة. آخر تلك الجرائم كانت مقتل الياس الحصروني، عضو مجلس مركزي في حزب «القوات اللبنانية» في منطقة بنت جبيل، حيث سارع البعض إلى إطلاق الاتهامات والإدانات قبل رفع الأدلة من مسرح الجريمة وبدء التحقيق الجنائي.
فإذا كانت هناك نية فعلية للوصول إلى حقيقة علمية حول الجاني وتسلسل الأحداث الجرمية، من المفترض الانتظار ريثما تختم التحقيقات ويصدر الحكم من المحكمة المستقلة، إلّا أنه يبدو أن إلصاق التهم بمن «جسمه لبّيس» فرجٌ لبعض اللبنانيين.