محطات النضال لتحقيق التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بنية وسياسات النظام اللبناني الطائفي المولّد للأزمات والحروب الطائفية والأهلية والقائم على التبعية للغرب الاستعماري، عديدة. آخرها كانت 17 تشرين الأول 2019، التي شكّلت في بدايتها تعبيراً عن توق اللبنانيين، بكل فئاتهم وطوائفهم، لتحقيق التغيير. لكن، سرعان ما ركبت هذه الموجة الشعبية بعض مجموعات الـ NGO›s وقوى وأحزاب وشخصيات مرتبطة بالولايات المتحدة، في إطار مخطط أميركي - غربي لإخضاع لبنان للهيمنة الأميركية الكاملة، ومحاصرة المقاومة ونزع سلاحها خدمة لكيان الاحتلال الصهيوني.وفي هذا السياق، جاء الحصار الأميركي الاقتصادي على لبنان لتفجير أزماته الاقتصادية والمالية والاجتماعية والخدماتية التي تسببت بها حكومات متعاقبة انتهجت سياسات «نيوليبرالية» أدت إلى إهدار المال العام ونهبه وتدمير القطاعات الإنتاجية وإشاعة الفساد.
في ظل غياب إطار وطني عابر للطوائف يمتلك قيادة وبرنامجاً للتغيير، تمكنت قوى وأحزاب وشخصيات مرتبطة بالغرب (ولا سيّما القوات اللبنانية والكتائب والأحرار ونواب ممن يُسمّون بـ«التغييريين»)، إضافة إلى الطغمة المالية وبعض المنظومة السياسية الحاكمة الفاسدة، من حرف الصراع عن مجراه الحقيقي خدمة للأهداف الأميركية في التصويب على المقاومة وسلاحها وتحميلها مسؤولية الأزمة، وبالتالي التستر على الدور الأميركي الخطير الذي يقف وراء انفجار الأزمة ومنع الحلول لها من خلال الحصار وسلاح العقوبات الذي يُشهر في وجه كل من يحاول أن يسير عكس التوجه الأميركي، ومنع قبول مساعدات أو استثمارات (صينية أو روسية أو إيرانية) لحل أزمات الكهرباء والنفايات وإعادة تأهيل البنى التحتية، وغيرها من المشاريع التي عُرضت على لبنان ورُفضت بسبب ارتباط مصالح بعض مسؤولي السلطة بالدول الغربية. والأمر نفسه ينطبق على العلاقات اللبنانية - السورية، وامتناع الحكومة اللبنانية بسبب الفيتو الأميركي عن التواصل مع الحكومة السورية وإرسال وفد لزيارة دمشق لحل أزمة النازحين وغيرها من القضايا الاقتصادية.
عليه، لا ينبغي تجهيل الجهات المسؤولة عن استمرار الأزمة بإطلاق أوصاف تتجنب تسمية الأمور بمسمّياتها الحقيقية للتعمية على حقيقة بعض المشاعر السلبية التي يختزنها البعض في داخله الشخصي أو السياسي... وبالتالي يسمح لنفسه بتبرير زيارات سياسية لقوى وشخصيات تقليدية من المنظومة السياسية الحاكمة، ضارباً عرض الحائط كل المواقف والشعارات التي أعلنها سابقاً، برفض العلاقة معها ومع ما تمثله.
لا يتساوى المشاركون الذين تعاقبوا على السلطة في المسؤولية والجُرم (بالفساد وتدمير الدولة ونهبها). فوزراء المقاومة لم تتلوّث أيديهم بالفساد وسرقة المال العام، وإن أخطؤوا أحياناً نتيجة عدم المعرفة ونقص الخبرة... بل كانوا في بعض المحطات نقطة مضيئة في هذا الظلام الحالك...
الحكومة الحالية والحكومات المتعاقبة، ولا سيّما الحكومات الحريرية، هي المسؤولة عن الأزمات التي تعصف بلبنان واللبنانيين. و إن كان هناك من يجب أن يتحمل المسؤولية المباشرة الآن عن إعاقة الحلول الممكنة للخروج من الأزمة، فهي حكومة تصريف الأعمال الحالية برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي التي تمتنع عن أخذ أي خطوة أو قرار لا يُرضي الولايات المتحدة (مثلاً، لماذا ترفض هذه الحكومة هبة إيرانية لإنشاء معامل كهرباء نحن في أمسّ الحاجة إليها مع أهمية توفّر التيار الكهربائي لتنشيط الاقتصاد وتخفيف الأعباء المالية والمعنوية عن الدولة والمواطنين). وقس على ذلك أيضاً المشاريع التي عرضتها روسيا والصين.
بالقدر نفسه الذي يتم فيه التأكيد على التغيير الاقتصادي والاجتماعي، وارتباطه بالتحرر من التبعية للولايات المتحدة وإملاءاتها ورفض حصارها والعمل على كسره، يجب التأكيد على أهمية التمسك بالمقاومة التي حررت الأرض من العدو الصهيوني والإرهاب التكفيري وحمت لبنان وثرواته وردعت العدوانية والأطماع الصهيونية... فالتحرر من الهيمنة الأميركية واستمرار المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني أمران مترابطان، إذ إن التحرر من الهيمنة الأميركية معبرٌ أساسي لحل أزمات لبنان الاقتصادية، ومواجهة الاحتلال وتحرير الأرض وحماية السيادة شرط أساسي لمنع العدوانية والأطماع الصهيونية في ثروات لبنان النفطية والمائية، كما أن لاستمرار المقاومة دوراً أساسياً في مساندة نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته من أجل تحرير أرضه وعودته إليها.
لذلك، كانت المقاومة وستبقى سبيلنا إلى التحرير والتحرر من الاستعمار والاحتلال كما كان يؤكد الزعيم جمال عبد الناصر.
أما الموقف النقدي من سياسة حزب الله في الشأن الداخلي اللبناني، فلا يجب أن ينسحب على دوره الريادي في مقاومة الاحتلال. بل يجب أن يكون هناك تأييد ودعم ومساندة واحتضان لدوره المقاوم عن جميع اللبنانيين في مواجهة الاحتلال الصهيوني، ولا سيّما أن المقاومة مستهدفة أميركياً وصهيونياً ومن بعض الأطراف السياسية المحلية، بسبب هذا الدور الريادي في التصدي للعدوانية الصهيونية وأطماعها، ولاستمرار احتلالها لأجزاء من الأراضي اللبنانية. ومحاولات استدراج المقاومة إلى شرك الفتنة، إنما تندرج في سياق الحرب الأميركية الناعمة لتشويه صورتها واستنزافها في حرب داخلية بعيداً عن مواجهة العدو الصهيوني.
لذلك، من موقعنا ودورنا القومي في المقاومة الوطنية، ندين كل المحاولات التي تستهدف المقاومة ونضالها وتاريخها تحت مسميات حصر السلاح في يد الدولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وجعل لبنان قوياً في ضعفه بدلاً من أن يكون قوياً بمقاومته التي حررت الأرض وحققت العزة والكرامة للبنان والأمة العربية.
و من الضروري التطلّع إلى توطيد علاقات لبنان العربية، بدءاً من الشقيقة سوريا التي تربطه بها علاقات مميزة نابعة من الجغرافيا والتاريخ المشترك وصلات القربى والمصير المشترك في مواجهة العدو الصهيوني الذي يحتل أجزاء من أراضيهما في الجولان وجنوب لبنان.
كما أن علاقات لبنان العربية يجب أن تنطلق من ثوابت تراعي مصالح لبنان الوطنية، والدفاع عن قضية العرب الأولى، قضية فلسطين، ودعم نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته، ورفض كل أشكال التطبيع مع كيان الاحتلال الصهيوني.
الخطوة العملية الأولى للتخلص من النظام الطائفي المولّد للأزمات تبدأ من وضع قانون جديد للانتخابات ينسجم مع دستور الطائف، ويقوم على اعتماد نظام المجلسين، مجلس وطني للنواب يُنتخب على أساس دوائر موسعة (المحافظة) أو بجعل لبنان دائرة انتخابية واحدة خارج القيد الطائفي، ومجلس للشيوخ يُنتخب على أساس طائفي تتمثل فيه كل العائلات الروحية اللبنانية على قاعدة التمثيل الأكثري.
الخلاصة، قيام أي جبهة وطنية شعبية حقيقية تنشد التغيير الحقيقي يجب أن ينطلق من هذه الثوابت الوطنية والمسلمات الآنفة الذكر. لذلك، فلنعمل لها بتجرد وصدق وإيمان حقيقي بالنضال لتحقيق الغايات المنشودة للوطن وللأمة، بعيداً عن التأويلات السياسوية و«الجعجعة» التي ينتهجها بعض مدّعي النضال، أكانوا طارئين أو تاريخيين...

* عضو اللجنة المركزية في التنظيم الشعبي الناصري، عضو الأمانة السياسية.