في عام 2013، حصلت تونس على قرض من صندوق النقد أتى بعد عقدين على آخر قرض منه. كل هذه القروض، بالإضافة إلى «قروض سياسة التنمية» المتزامنة من البنك الدولي، كانت مشروطة بإعادة هيكلة الاقتصاد التونسي. وعلى مدى العقد الماضي، أدّت إعادة الهيكلة هذه إلى تغيّرات مدمّرة. 

شروط الصندوق
ما هي بعض تلك الشروط والتغيّرات التي أُلحقت بالقروض؟ كان استقلال المصرف المركزي إحدى أهم هذه الأفكار. في السابق، كانت فكرة استقلالية المصرف المركزي هامشية في النظريات الاقتصادية، إلى أن جعلها الأيديولوجي النيوليبرالي ميلتون فريدمان سائدة. وعندما أصدرت تونس قانون استقلال المصرف المركزي، في عام 2016، من أجل الحصول على أول قرض من صندوق النقد الدولي، جعلت المصرف فعلياً مستقلاً عن السيطرة السيادية والديموقراطية للشعب التونسي. هذه الخطوة أدّت إلى تفاقم اعتماد المصرف المركزي على المؤسّسات والأسواق المالية الدولية. حصَرَ قانون استقلالية المصرف، الدور الاستراتيجي له في السيطرة على الأسعار والاستقرار المالي، ولم تكن من مهامه معالجة معدلات البطالة كما يفعل العديد من المصارف المركزية الأخرى. كما حدّ القانون من قدرة المصرف على إقراض خزينة الدولة، ما يعني أنه يتعيّن على الحكومة السعي إلى الحصول على المزيد من القروض من المؤسّسات الخاصة الأجنبية والمحلية بدلاً من ذلك. سهّل هذا التغيير أيضاً تنفيذ شرط آخر هو: انخفاض قيمة العملة. وكان الهدف المفترض من وراء ذلك تحسين القدرة التنافسية للصادرات التونسية، لكنه بدلاً من تحقيق ذلك أدت هذه السياسة إلى واقع فاقم العجز التجاري التونسي، وقضى على مدخرات الأسر وعجّل في تضخم الاستيراد المدمِّر. 
في الوقت نفسه، شهدت تونس زيادة مديونيتها لحساب صندوق النقد  والبنك الدوليين. الآن، تشكل مديونية المؤسستين 40% من الدين الخارجي التونسي، ما يعني أن البلاد بحاجة إلى إنفاق المزيد من ميزانيتها السنوية كل عام، على سداد الديون للمؤسّستين الدوليتين بدلاً من الإنفاق على الصحة والتعليم أو حتى البنى التحتية. ومن شروط التقشف الأخرى، برز شرط تجميد أجور القطاع العام، وهذا ما يعني عملياً انخفاض الأجور بحسب القيمة الحقيقية، لأن التضخم قلّص قيمة الأجور. كما تم تنفيذ شرط تجميد التوظيف في القطاع العام، بما يتماشى مع توصيات صندوق النقد الدولي. وقد أدى تنفيذ ذلك إلى خسارة تونس الأطباء والمهندسين والمعلمين المؤهلين - المتعلمين على حساب الحكومة - الذين غادروا البلاد. هذا الأمر يُمثّل خسارة صافية مالية لتونس. ويمثل أيضاً عملية تراجع في التنمية لأن البلاد تشهد هجرة عقول كانت أساسية في تحفيز عملية النمو، فكانت النتيجة تعطيل هذه العملية، وتركت الملايين من دون خدمات كافية، بينما سلبت تونس أيضاً رأس مالها البشري الذي تحتاج إليه للقيام باستثمارات مستقبلية في الخدمات. والآن، نجد أن تونس محمّلة بالديون، ومحرومة من الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي منذ عام 2020، لقد تراجعت التصنيفات الائتمانية لتونس، ما جعل استيراد السلع التي تشتدّ الحاجة إليها، مثل الطعام، أكثر تكلفة وفي بعض الأحيان مستحيلاً، حتى صارت رفوف المحال فارغة في بعض الأحيان. 

أجندة «الطالب الجيد»
لكن لماذا حصلت تونس على قرض صندوق النقد الدولي في عام 2013؟ قبل انتفاضة 2011، كان صندوق النقد الدولي يروّج لصورة وردية لأداء تونس الاقتصادي. في الواقع، كانت تونس تُلقّب في كثير من الأحيان بـ«الطالب الجيد» عند صندوق النقد الدولي. ولكن بعدما انتفض التونسيون ضد الحكومة التي كانت تلميذاً جيداً، تحوّل خطاب صندوق النقد الدولي إلى خطاب ينذر بالخطر: تونس بحاجة إلى صندوق النقد الدولي لمنع السيناريو المخيف للتضخم وإهمال الشباب وتزايد نسب البطالة. وقالت مديرة صندوق النقد الدولي آنذاك كريستين لاغارد «يحزنني أن خريجي الجامعات عاطلون من العمل في تونس». ومع ذلك، نرى الآن، بعد برامج قروض عدة من صندوق النقد الدولي، أنه لم يتراجع معدل البطالة في تونس، لا بل إنه بالإضافة إلى البطالة، أصبحت تونس تعاني من تحدّيات اقتصادية أكثر تدميراً، ناجمة عن شروط قروض صندوق النقد الدولي. 
في زيارتها لتونس، عام 2012، بدت لاغارد أكثر «حرصاً» من العديد من التونسيين على اقتراض البلاد. تحدثت إلى الصحافة في تونس، وكان إلى جانبها مصطفى كامل النبلي، وهو وزير سابق لبن علي، ثم مسؤول رفيع المستوى في البنك الدولي، وقد تولى منصب محافظ البنك المركزي بمجرد هروب بن علي في عام 2011. وفي هذا المنصب، أدى دوراً محورياً في القضاء على الدعوات لمراجعة الديون من قبل مجموعات ناشطة مثل Raid-Attac وACET وCADTM. هذه الدعوات، لو كانت مستجابة ربما كانت قد أدّت إلى مزيد من الزخم لإلغاء ديون تونس البغيضة، وهي ديون غير شرعية تستخدم لإثراء نخبة صغيرة على حساب الشعب. لكن التآزر بين النخب التونسية والمؤسسات المالية الدولية، بعد انتفاضة 2011، كان فعالاً في تشكيل اتجاه الاقتصاد التونسي بعيداً من إنجاح مثل هذه الجهود، التي تحمّل الناس وحدهم عبء القيام بها. 
تشكّل مديونيّة تونس لكلٍّ من صندوق النقد والبنك الدوليين 40% من الدّين الخارجي


بالطبع، أدّت المؤسسات المالية الدولية والحكومات الغربية دوراً في تهيئة الظروف لأزمة عام 2011، وكان أبرزها: عقود من برامج التحرير الاقتصادي والمالي والخصخصة وإلغاء القيود التي تم سنّها بشكل أساسي من خلال شروط إقراض البنك الدولي، ولكن أيضاً من خلال الحوافز المرتبطة بالمساعدات الثنائية والمتعددة الأطراف من أوروبا. كل هذه السياسات قوّضت، ببطء، دور الدولة، بينما أعادت إنتاج وتفاقم اعتماد تونس الشديد على أوروبا في التجارة. ذهب التمويل الأجنبي أيضاً إلى دعم عائلة بن علي وحلفائه السياسيين، مع إلقاء كلفة سداد هذا الدين البغيض على كاهل الشعب التونسي. لذا، فإن الجهود المحلية التي تبذلها النخب التونسية للقضاء على نشاط إلغاء الديون تتماشى تماماً مع ما وعدت به المؤسسات المالية الدولية ومجموعة الثماني تونس، آنذاك بعد عام 2011. فمثلاً شراكة دوفيل، وهي مبادرة عالمية طويلة الأمد لتزويد البلدان العربية التي تمرّ بمرحلة انتقالية في إطار عمل قائم على الدعم الفني، تنذر بمزيد من القروض بدلاً من إلغاء القروض الموجودة. وبدلاً من تشخيص دورهم في بناء النظام النيوليبرالي الذي كان يديره بن علي، أصبح هناك جولة جديدة من «مساعدات التنمية» الخانقة للاقتصاد التونسي. 
في تموز 2013، أصدرت الحكومة التونسية بقيادة رئيس الوزراء علي العريض مرسوماً يسمح للمصرف المركزي، بقيادة الشاذلي العياري، بإبرام قرض مع صندوق النقد الدولي مباشرةً، متجاوزةً رأي البرلمان التونسي. تم التوقيع على هذا القرض على الرغم من مطالبة أكثر من 70 نائباً من أعضاء البرلمان بطرح القرض على التصويت في البرلمان. ورغم أن هيئة الحقيقة والكرامة التونسية أرسلت مذكرة إلى صندوق النقد والبنك الدوليين في عام 2019 تدعوهما إلى الاعتذار عن دورهما في أعمال الشغب التي سمّيت بثورة الخبز المميتة في شهر نيسان من عام 1983، وطالبتهما بدفع تعويضات عن نتائجها وبإلغاء الديون، إلا أن الحكومات المتعاقبة تعاملت في العقد الماضي، على قدم وساق، مع الأجندة النيوليبرالية المدمّرة التي وضعتها المؤسسات المالية الدولية. وقد يكون هذا أحد الأسباب التي دفعت الجماهير إلى الاحتفال في الشوارع عندما أغلق الرئيس قيس سعيد البرلمان وأقال الحكومة في تموز 2021. وحتى الآن، أبدى الرئيس سعيد استعداده لمحاولة إيجاد بديل لصندوق النقد الدولي، لكنه أيضاً نفّذ سياسات التقشف الجديدة التي سعى إليها صندوق النقد الدولي، وهناك ضغوط متزايدة عليه، وخاصة من أوروبا، لتوقيع صفقة قرض جديد.