كلّ هذا يجعل من الكلام عن اهتزاز شرعية وجود إسرائيل أمراً «خارج السياق». لكنه خروج في نظر التيار المهيمن على صناعة القرار الاستراتيجي في العالم («المجتمع الدولي» وملحقاته) فحسب. أما التيارات الشعبية التي يتعاظم رفضها لهمجية إسرائيل، فلا ترى سياقاً لذلك «الخروج» أصلاً. فهي تعتبر إنشاء هذا الكيان على أنقاض فلسطين التاريخية «خطيئة أصلية». غير أن اعتبارها الأخلاقي هذا لا يقلّل من تقديرها الواقعي لوطأة التحولات التي جرت على الأرض منذ «النكبة» عام 1948. فمعاناة الفلسطينيين بالنسبة لهذا التيار التقدمي يجب ألاّ تجبّ معاناة اليهود (غير الصهاينة)، والعكس بالعكس. وتوكيداً لهذه المعيارية، يأتي الخطاب الإنسانوي الذي رفع في غير عاصمة أوروبية وعالمية أثناء العدوان على غزة وبعده. خطاب بنى رفضه لجرائم إسرائيل على أساس فصلها عن المظلومية اليهودية. وهذا ما يفسّر ضيق إسرائيل المتنامي بهذا الخطاب، وسعيها إلى تحجيمه وإبقائه عند حدود معيّنة. وما يضيرها فيه هو بالتحديد المقاربة المركّبة التي يسعى إلى تكريسها وجعلها عرفاً في التعامل مع العنف الصهيوني، أي تلك التي تربط من جهة بين المظلوميتين الفلسطينية واليهودية، وتضع حدّاً من جهة أخرى لربط إسرائيل الوقح بين المحرقة وممارساتها تجاه العرب والفلسطينيين (كما أسلفنا).
على هذه القاعدة الثنائية، أمكن «لأول مرة» تقريباً حشر إسرائيل في الزاوية، ووضعها في مواجهة مفتوحة مع العالم الحرّ بأسره (عالم الشعوب والتيارات المعترضة على تخاذل «المجتمع الدولي» المزعوم).
وهنا لعبت غزة دوراً مفصلياً. فما قبل العدوان عليها هو غيره ما بعده. ذلك أن دعاية إسرائيل الفظة بشأن تهديد صواريخ حماس البدائية لمستوطناتها و«عمقها البشري» لم تفلح في حجب الصور الدموية الآتية من غزة. صور أخرجت ولو لبرهة «العالم» عن طوره ودفعت بقواه الحية إلى رفع شعارات لم تكن تجرؤ على رفعها سابقاً. وأعني بها تلك الشعارات التي ساوت بين الصهيونية والنازية. لم يأبه هؤلاء عندما فعلوا ذلك للميكانيزمات الصهيونية الحاضرة دائماً لوسمهم بمعاداة السامية، ولا أنصتوا لحكوماتهم المتواطئة مع إسرائيل والمستشعرة حجم المأزق الذي ستقع فيه إذا ما وصلت الحملة المناهضة لربيبتهم الصهيونية إلى خواتيمها. وأمام هذا الدفق الشعبي غير المسبوق، اضطر النظام الدولي المهيمن إلى تحريك أدواته، حتى لا يخرج هذا الحراك المفاجئ عن طوره الرمزي ويهدّد أحد أركان هيمنة هذا النظام على المنطقة (إسرائيل طبعاً). في هذا السياق تحديداً، أتى تقرير القاضي الجنوب أفريقي من أصول يهودية ريتشارد غولدستون. صحيح أن التقرير خرج بتوصيات تدين إسرائيل على «عنفها غير المبرّر» (في صياغة رائجة أخرى يقال عنه «غير المتكافئ») تجاه الفلسطينيين العزّل، لكنه كما كلّ القرارات والتوصيات الصادرة عن الأمم المتحدة لم يرفق خلاصاته بآلية تضع إدانة إسرائيل اللفظية موضع التنفيذ. ومع ذلك خرج العرب ومعهم أحرار العالم من هذه الجولة «رابحين» على غير عادة.
لم تكد تمرّ سنة على نتائج التحقيق في حرب غزة حتى ارتكبت إسرائيل حماقة جديدة في عرض البحر. وهذه المرة لم يكن الضحايا عرباً ولا فلسطينيين، بل كانوا متضامنين أتراكاً. وفور اتضاح صورة الجريمة، بدا أن إسرائيل في طريقها إلى هزيمة ثانية لا تقلّ وقعاً عن هزيمتها في حرب غزّة. وبالفعل، تحرّك الرأي العام العالمي مجدّداً ضدّ إسرائيل ووضع «هيبتها» على المحك. وكما في كل مرة يزداد فيها الغضب من ممارسات إسرائيل، تخرج إلى العلن آليات مختلفة لمقاومة هيمنة هذا الكيان على الفضاء الرمزي. وتطوير هذه الآليات في كلّ مرة ينزل فيها الناس إلى الشارع هو ضرورة قصوى لتكريس مفهوم المقاومة المدنية وإظهار عدم تعارضها مع المقاومة العسكرية التي ينهض بها الفلسطينيون على طريقتهم. وأيّ مجال لمقارعة إسرائيل دولياً وإسقاط هيمنتها الرمزية أفضل من المجالين الحقوقي والإعلامي. وقد خيضت هذه المعركة بالفعل في قضية أسطول الحرية، وألحق أصحابها خسائر كبيرة بصورة إسرائيل المتآكلة أصلاً. وليس أدلّ على ذلك النجاح من اعتراف الصحافة الإسرائيلية بخسارة هذه الجولة أيضاً أمام الرأي العام العالمي. حتى الرأي العام في إسرائيل نفسها بدا غير مقتنع تماماً بالسردية التي قدمها إعلامه الرسمي لما حصل على متن سفينة مرمرة التركية.
نسق جديد يكسر احتكار إسرائيل لصورة الضحية
والجديد حقاً في هذه الإدانات هو طابعها المركّب الذي ينطوي على مكوّنات حقوقية وشعبية وحزبية وعمالية وفوضوية من شتى أنحاء العالم. فهذا الطيف الواسع من القوى يحرم إسرائيل من ورقة أساسية لطالما أشهرتها في وجه خصومها وضحاياها: ورقة التنميط. فبين من يتظاهر اليوم ضدها وضد جرائمها بحق العرب والفلسطينيين بيض ويهود وأوروبيون وأميركيون ومعادون للنازية. وهؤلاء لا يمكنها التعامل معهم كما لو كانوا أنصاراً لحماس أو لحزب الله أو للجهاد الإسلامي. لقد انتهت هذه الحقبة بعد العدوان على غزة وبعد مجزرة أسطول الحرية، وتعطّلت مع انتهائها قدرة إسرائيل على الإفلات من العقاب كلّ مرة بحجّة أن ضحاياها ليسوا تماماً ضحايا. فما عادت صواريخ حماس البدائية ولا عصي المتضامنين الأتراك على متن أسطول الحرية تنفع دعايتها الفظّة بعد اليوم. عليها من الآن وصاعداً أن تواجه نسقاً مختلفاً من الأعداء. نسق مرشّح لأن يعزلها ويكسر احتكارها لصورة الضحية، ويضعها جنباً إلى جنب مع الجلاد النازي السابق في تراتبية أخلاقية من صنعنا نحن. تراتبية لا يد للغرب فيها ولا رجل حتّى.
* كاتب سوري