ناصر شرارة
.. من الرئيس الإيراني السابق السيد محمد خاتمي إلى مستشاره الأول الشيخ محمد أبطحي الذي خبر لبنان وعاش فيه فترة طويلة، الى الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وآخرين. كل النتاج الفكري لهؤلاء، سيعتمده المنخرطون في فكرة تقليص التأثير الإيراني على شيعة لبنان، بوصفه الفكر البديل الإنقاذي. ولم يستقر القرار على مواجهة إيران في لبنان بسلاح المناكفة الفكرية معها من داخل وثائقها الشيعية، إلا بعدما تأكد القائمون على هذا الأمر، أن أخطاء، وقعت في طريقة تعاملهم خلال الفترة الماضية مع الساحة الشيعية اللبنانية.
فتداعيات اغتيال الشهيد الرئيس رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان، خلقا واقعاً لبنانياً، استنسخ عملياً، ولكن بشكل معكوس، تفاصيل الواقع المذهبي الذي أنتجه في العراق الاحتلال الأميركي. ووجه التشابه تمثّل بأن الشيعي في لبنان أصبح مطلوباً منه إعادة تعريف هويته اللبنانية من خلال تأكيدها، وفي العراق مطلوب منه إعادة تعريف هويته العربية عبر تأكيدها. وهذا التماثل المعكوس، سحب مشهد الاحتقان المذهبي العراقي الى الداخل اللبناني.
وقاد تعميم فكرة طرح هوية الشيعة على مشرحة المساءلة في المنطقة، بعض الأوساط اللبنانية الرزينة، وعلى رأسهم الرئيس سليم الحص، في مجالسهم الخاصة، للإعراب عن خشيـــتهم من احــــتمــــال أن تكون واشنـــطن بعد أن فــــــشلـــت في إثارة الـــفــــتــــنة السنـــّية ــ الشيــــعـــــية في المــــنطــــقة انطــــلاقاً من العراق، تحاول تمريرها انطلاقاً من لبنان.
ولكن يجب بدايةً التفريق بين رؤية النظام الرسمي العربي لمشروعه المتعلق بمواجهة النفوذ الإيراني في لبنان، وبين المشروع الأميركي للشيعة. فالأول يريد إقامة حاجز أمام الاندفاعة الايرانية نحو الشرق، عبر احتواء الشيعة من خلال إعلان انتمائهم لمجتمعاتهم الوطنية في المشرق ولمجتمعاتهم العربية في الخليج، فيما الثاني يريد تجييش خصوصياتهم لزجّهم في مشروعه للحرب المذهبية.
وفي إطار السعي الجديد لتنفيذ الرؤية الجديدة عن مواجهة من الداخل، برز ميل للكفّ عن توجيه لوم مباشر للشيعة في لبنان من خارج الشيعة. والبديل هو احتواؤهم عبر مخاطبتهم بلسان من داخل تراثهم وبواسطة نخبهم السياسية والدينية التراثية والمعاصرة. وهو أمر يستوجب سياقه إعادة إحياء ثقافة فقهية وسياسية وإنقاذها من النسيان.
وبرزت إرهاصات العمل بهذا التوجه، في ذروة صعود نجم شخصية أيّاد علّاوي حينما كان رئيساً للوزراء. آنذاك قاد الأخير تواصلاً مكثفاً مع نخب شيعية لبنانية. غير أن علاوي فشل في تعريف نفسه وسيطاً بين النجف التي طرح أمر استعادة بريقها المرجعي، وشيعة لبنان، فلا المرجع السيستاني رأى ضرورةً لهذا التحرك، وأكد ذلك من خلال التأكيد على أن ممثله في لبنان هو الخفاف، ولا هو نفسه استطاع أن يجد طرفاً لبنانياً ذا شأن يجاريه بهذا المشروع، رغم أن أفراداً تماهوا معه بذلك فعلاً، ولكن ذلك لم يفض في نهاية مطافه إلا لإبرام صفقات تجارية معه ليس أكثر، كانت أساساً أُنشئت على خلفية أن إيجاد مصالح اقتصادية واستثمارية مشتركة بين النخب الاقتصادية الشيعية اللبنانية والعراقية سيقود لبلورة مصالح وترابط بين الطرفين في مقابل المصالح والترابط الموجود الآن بين شيعة لبنان وإيران.
ومع خبوّ نجم علاوي في العراق، وتفكك المصالح التجارية الآنفة التي آلت إلى حساب بضعة أفراد، رغم أن حجمها هو عشرات الملايين من الدولارات، طُرحت بدائل للفكرة العلّاوية السابقة، لا تزال قيد التبلور، ولكنها تلحظ بالأساس ضرورة الاستعانة بخطاب شيعي سياسي ــ ديني لبناني داخلي يتقاطع في توجهاته مع خطاب ايراني مماثل ومغاير للمعتمد حالياً في طهران.
ومثل هذا التوجه جسّده جنبلاط، لأول مرة عملياً في مؤتمره الصحافي أمس، عبر توأمته بين “وصايا” الشيخ شمس الدين و“خطاب خاتمي” في المدينة الرياضية في بيروت. وكان قد سبق ذلك، منذ أشهر، بروز سياق لتجسيد رؤية لمخاطبة شيعة لبنان بكلام من داخل تراثهم وعلى لسان مشايخهم، أخذ تعبيره بقيام رؤساء وملوك عرب بتعيين شيوخ شيعة لبنانيين في منصب مستشارين لهم “للشؤون الشيعية”.