ساد شبه إجماع على توصيف القمة العربية في جدة، عندما تسالم المتابعون على تشبيهها بطقوس جنّاز لمواراة عقد ونيف من «الربيع العربي»، بفصوله المتقلّبة ونزاعاته المركّبة، من احتجاج واحتراب أهلي وتدخلات الخارج وانقسام المحاور وشقاق الأنظمة. وعليه، من ثم، فاتحة ممكنة لانتظام جديد في الوطن العربي ومع جيرانه المؤثّرين في إيران وتركيا. والقراءة هذه مقوّمة بحشد من الحجج؛ أولاها البيئة الإقليمية المنقلبة بفضل من المصالحات السعودية، المتقدّمة خطوات تجاه طهران ودمشق، ونصف خطوة تجاه صنعاء، وقد تبعتها على ذلك عواصم تدور في مدار المملكة.
وفي البيئة الدولية، رسّخت حرب أوكرانيا استراتيجية الولايات المتحدة التخفّف من تركيز مواردها على المنطقة (كان التنفيذ في أوجه أساساً مع انسحاب أفغانستان)، وجلّت التصدّعات في آليات الهيمنة والاستتباع. برزت هوامش لدى الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، بالتمايز عن أولويات الأجندة الأميركية وتنويع الشراكات كتحوّط استراتيجي. وهذا الواقع الأميركي أتاح فرصة تلقّفتها بالاستثمار الصين وإيران وروسيا.
المعطيات الأساسية هذه تحمل على القول إن التأثيرات التي تحدث في المنطقة تقف على أرضية صلبة، بما يسمح بقراءة تفترض أن الإقليم يدخل طور تشكيل نظام جديد يتقوّم بفرصة/هدف «الاستقرار» وتعاون الحكومات - عنوانا حدث القمة ووصفتا المجتمعين البديلة مما حملته موجة «الربيع».
تفتح القراءة هذه على أسئلة بأكثر من اتجاه، وتثير نقاشات (يطرق الكتاب المساهمون في هذا الملف بعضاً منها) في غير وجهة، من المساجلين في ما إن كان ما يجري هو مصالحة راسخة تقود إلى استقرار وقيامة نظام إقليمي جديد أم تهدئة مرحلية هشّة:
- في حقيقة أين يقف النظام السعودي الآن: إذ إنّ دعوى الاستفاقة المفاجئة والجنوح نحو العقلانية والسيادة محطّ تشكيك. وهو ما يحمل البعض على الترصّد ومساءلة دور الرياض المرتقب عند أي تحوّل في موقف الإدارة الأميركية. وتمثّلاً بتجربة إقامة منظمة التعاون الإسلامي إثر حرق المسجد الأقصى (1969)، يطالَب أي تقارب عربي أو تعاون إسلامي، من أصحاب الوجهة هذه بإعادة الاعتبار لمركزية القضية الفلسطينية كمعيار لجدية التوجهات الاستقلالية. علماً أن مشروع التطبيع لم يقتصر على مجرد تناقض بين خطابين لمحورين وخيار تطبيع منفرد لبعض الحكومات، بل نحا في المرحلة القريبة منحى التحالف الوثيق مع إسرائيل، إلى حدّ الحديث عن تأسيس «ناتو عربي-إسرائيلي» لمجابهة إيران وحلفائها في محور المقاومة عسكرياً، ما يجعل من هذا المتغيّر في مسار المشروع تطوراً يؤخذ في الحسبان، ولو لم يرق إلى طموح شعوب المنطقة بإقامة تحالف ضد إسرائيل.
- في سؤال ما إن كان الاحتفاء الوجيه بتراجع الاحتراب الإقليمي، يفترض ضمناً أن ما ترسو عليه المنطقة يعفيها من أسئلة التحرر السياسي وإصلاح البنى الداخلية على حساب الحلول الأمنية والفساد والتهميش. ولئن كان أفول الصدام الإقليمي «الرسمي» مدخلاً يعين على توسّل الاستقرار والتهدئات الداخلية في كل بلد على حدة، فإن استحقاق تضميد الجراح الناجمة عن البُعد الأهلي للنزاع، بالمصالحات والمشاركة وصولاً لإعادة الإعمار ومعالجة النزوح واللجوء، لن ينفكّ يلحّ داخل كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا. كذلك الحال مع مطالب شرائح واسعة تعاني التهميش والإقصاء والحرمان، علا صوت بعضها بدايات الانتفاضات وخفت أو تأجّل مع الانزلاق إلى الحرب، وهي لا تكتفي بالإجابات - على طريقة وكلاء الخارج في الحروب- من المصالحات بين الحكومات.