لم يَحِد الشيخ، الذي بلغ المئة من السنين منذ أيّام، عن أغنية الحبّ والحرّية التي في قلب الله والتي قالها يسوع بجسده المعلّق على الصليب شهادة منه أنّ الظفر لا يكون إلّا بالحرّية ولو كانت مطعونة. كلّ الكلام الذي يُقال في الكنائس عن الطاعة، والذي يعني عادة الخضوع، كان جورج خضر يحطّمه بكلماته عن الحرّية التي تلد الإنسان في يسوع، بدءاً بجرن المعموديّة الذي يحرّر كلّ شخص من التبعيّة ويطلقه أخاً أو أختاً ليسوع ويعطيه أن يكون فاعلاً مسؤولاً يشهد للحقيقة، ولهذا يكون الحقيقة ويقولها حتّى ولو تحامل عليه القطيع أو قاطعه أو قتله، فما من تلميذ أفضل من معلّمه كما قال يسوع.
لم يرَ جورج خضر الطاعة سوى فنّ الإصغاء، كما تعني الكلمة في جذرها اللاتيني، فعرفها فنّ الإصغاء إلى الحبّ، فنّ الإصغاء إلى يسوع الذي جسّد الحبّ والحقّ. لذلك رأى مطران الحرّية أن «في الصليب يغدو أحدنا حبيب الآخر بعدما أحبّنا هو [يسوع] أوّلاً واستجَبنا لحبّه في الطاعة» أي في الإصغاء لحبّه ومبادلته الحبّ بحبّ، لهذا رأى المعلّم خضر أنّ «الطاعة مطلوبة، ولكن في الملتقى السماوي الذي هو قلبك... أنت تختبر هذا إن كنت من العاشقين». لذلك ميّز بوضوح أنّه «إذا أطعت بشراً فلِتَوَفّر الدلالات على أنّهم هم خاضعون لربّهم... خضوعه [الإنسان] لله ينفي كل عسف واعتباطية بمعنى أن لا قدسيّة لإرادتك ما لم تكن متطوّعاً لله دائماً». رأى دائماً خضر الحقيقة ففهم أنّه «لكون الكنيسة تبغي الحقيقة... لا يؤخذ فيها مفهوم الطاعة على مقياس الطاعة في الجيش». وإذا كان الإصغاء ليسوع، أي للحقّ والحبّ، نفهم كيف أنّ «الطاعة لله هي سبب السلام»، إذ لا طاعة لله دون محبّة الحقيقة والعدالة فـ«أنت مفوّض الحقيقة في الكلمة وفي السلوك». «الطاعة فقط لله أي لكلمته ولمن قال هذه الكلمة. أنت تخضع فقط للحق... نحن لسنا عبيداً لأحد... لا طاعة لمخلوق ما لم يكن ناقلاً بفمه أو أفعاله الرأي الإلهي. ليس عندنا نحن المؤمنين طاعة بحسب التراتبية... كلّ علاقة لنا مع الناس يحكمها قول الإسلام: "لا إله إلا الله" وهو قولنا جميعاً».
المشغوفون في الكنيسة بخضوع الناس للناس تحت مسمّى «الطاعة» ما هم أحبّوا مطران الحرّية، ولو كرّموه، لأنّهم ما أحبّوا معلّمه يسوع. هؤلاء لم يفهموا أنّ طاعة إنسانٍ أو جماعةٍ على ضلالٍ وغيّ، هي تمرّد على المسيح، ولهذا قد تذهب بك عن معموديّة الروح فـ«المعمودية إشارة إلى أنك اصطبغت بالروح القدس، ولكنّ كثيرين سقطوا منها وذهب عنهم الروح القدس... ومعمودية الروح تعني طاعة المسيح».
مَن قرأ يسوع المسيح في كلمات خضر يعرف أنّ الملكوت لا يُعطى إلّا للأحرار لأنّ الحرّية هي شرط المحبّة والمحبّة هي الله نفسه. ومَن قرأ يسوع في كلمات خضر قرأ أيضاً أن لا حرّية في قايين الذي لا يعرف نفسه مسؤولاً عن أخيه، لأنّ المحبّة هي شرط الحرّية من الطغيان والأنا تطغى إن لم ترَ الآخر في حاجاته وآلامه أخاً وأختاً.
حرّر المطران خضر بنقله وجه السيّد الحرّ على الصليب كلَّ مَن كان يتوق إلى الحرّية من الأشياء والأشخاص والطوائف والذكاء والأنا والجماعات، ومَن لم يُرِد هكذا حرّية سمع المطران ولم يفهم، يمكنه أن يدبّج الأقوال في خضر ما يشاء لكنّ ذلك لا يعني أنّه أطاعه، أي أطاع المسيح الذي فيه استقرّ. هذا المحرّر الثوريّ عبّر في الخمسينيات من القرن العشرين أن «شاء الانسانُ أن يَرفُضَ الحرّيّةَ... والناس يقلّدون ويؤْثرون التقليد... لأنّهم يخافون أن يتحمّلوا مسؤوليّة اختيارٍ أصيل وهُم في ذلك مجرّدون عن الشجاعة والجرأة، منقادون إلى تيار العرف، رازحونَ تحت الوطأة الاجتماعيّة الخائفة. يأبون أن يكونوا أفراداً يَخلقون حياتَهُم لأنّ اندماجهم بالدهماء والعامّة أضمن لراحة البال وأقلّ انشغالاً من التقرير الفردي الخيّر».
رجاؤنا أن يكون للمعلّم المحرّر جورج خضر ما أراده لنفسه حين ناجى يسوع قائلاً: «أطلب شيئاً واحداً، ألّا تصرف وجهك عنّي، ولكنّي اشتقت إلى الذهاب لأستريح. اكتبني في سفر الحياة. تعال أيها الرب يسوع واكشف لي وجه الآب». أمّا الذين سمعوه فِعلاً، وأطاعوا ما فيه من جهة كلمة الحياة، وتلقّفوا الجمر الساقط من فمه ليحترقوا به، فيذكرون كلّ يوم وصيّته لهم في خطاب له في عيد تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في ثمانينيات القرن الماضي: «روحوا حبّوا».

* كاتب وأستاذ جامعي