كشفت الحرب على غزة والإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون بتمويل ودعم أميركيَّين وأوروبيَّين، نفاق العالم المتحضّر الذي أنفق ملايين الدولارات في العالم العربي في السنوات الماضية، ليحاضر فينا عن حقوق الإنسان، وحرية التعبير، ونبذ العنصرية، والعيش بكرامة، والثورة في وجه حكامنا. وليحقق هدفه في نشر نفاقه وازدواجية معاييره، استعان بجنود مرتزقة استقطبهم من وسائل الإعلام أو جعلهم إعلاميين، إضافة إلى ناشطين وناشطات فيما يسمى المجتمع المدني.وعندما قرّرت غزة أن تُقاوم على طريقتها وبما يليق بها، انتفض العالم «المتحضّر» لمعاقبتها ولترهيب كل من يحاول مقاومة الاستعمار والاحتلال. لكن حرب الإبادة حركت ضمائر كثيرين حول العالم، وانطلقت دعوات المقاطعة العالمية لكل من يدعم العدو الإسرائيلي، إلا أنّ الجنود المرتزقة في لبنان بقوا أوفياء لمموّليهم، وباتوا أكثر وقاحة في ترهيب كلّ من يتجرّأ على انتقادهم أو الاعتراض على عملهم.

المموّل ومرتزقته: علاقة سامة
في بداية الحرب، سارعت الولايات المتحدة الأميركية ومن بعدها دول الاتحاد الأوروبي إلى إعلان دعمهم غير المشروط للكيان الإسرائيلي، وانطلقت حملة ترهيب عالمية شرسة لكل من ينتقد إسرائيل أو يتجرّأ على دعم المقاومة، بل ولا يُدينها. وتولّت مجموعات إسرائيلية وصهيونية قيادة هذه العمليات الترهيبية، وتفرّغت طوال أيام وأشهر لمتابعة التحركات الإلكترونية لعاملين عرب أو مسلمين في منظمات أو مؤسسات غربية بهدف ضرب مصداقية هذه المؤسسات، وحثّها على طرد موظفيها «المعادين للسامية». هذه الحملات التي طالت أكاديميين وصحافيين وعاملين في «الأونروا» وغيرها من الوكالات الدولية الناشطة، انسحبت أيضاً على المنظمات الحقوقية والمنصات الإعلامية المموّلة من دول الغرب والناشطة في فلسطين المحتلة.
في بداية الحرب، أعلنت عدة دول أوروبية كالنمسا والسويد والدنمارك وألمانيا والمفوضية الأوروبية تعليقها أو قطعها للتمويل عن منظمات حقوقية ومنصات إعلامية «بديلة» عاملة في فلسطين المحتلة، بحجة إساءة استخدام تمويلهم وتحويله إلى منظمات إرهابية، كما اتهمت توثيقهم لانتهاكات العدو ضد الفلسطينيين بأنه معادٍ للسامية، ويشجّع على العنف ضد «الدولة الإسرائيلية». وتمادت بعض هذه الدول لتشترط «إدانة حماس» قبل أن تزوّد أي مؤسسة حقوقية بأي تمويل في المستقبل. وقتذاك، اعترضت هذه المنظمات والمنصات في بيان مشترك على هذه الإجراءات، مذكرين هذه الدول بأن فعلهم يتعارض مع مبادئ حرية التعبير، والتزاماتهم بشأن حقوق الإنسان، وبأنهم سيشجعون العدو على ممارسة المزيد من القمع، وطمس كلّ العمل الحقوقي الذي تراكم طوال السنوات الماضية. وكانت «الجزيرة» قد نشرت مقالاً بالإنكليزية، بعد شهر على الحرب، سلّط الضوء على مخاوف الناشطين العاملين في منظمات ومنصات «بديلة» في مصر ولبنان والشرق الأوسط وشمال أفريقيا من فقدان تمويلهم من أوروبا وأميركا، إذ قيل لهم إن ما بين إسرائيل وتمويل «الصحافة الحرة» والمجتمع المدني في العالم العربي، الأولوية هي لمناصرة إسرائيل.

«البديل» اللبناني: ما أحلى «التقليدي»!
في لبنان، تكثر المنصات والمنظمات المستفيدة من التمويل الأوروبي والأميركي، وقد تعاظم حضورها بعد الحرب على سوريا وأزمة اللاجئين في لبنان. وتعزّز عملها بعد قطع التمويل السعودي عن الإعلام اللبناني، واندلاع الأزمة الاقتصادية عام 2019. وتصف هذه الفئة نفسها بـ«البديلة والمستقلة»، وأنها ترفض الزبائنيّة وحكم العائلة، وتتمايز كلياً عن ما يسمونه «بالإعلام التقليدي» أي قنوات التلفزة التي يرتبط تمويلها وسياستها بدول ورجال أعمال وسياسيين... لكن، هل يتمايز هؤلاء فعلياً عن الإعلام التقليدي؟ الجواب ببساطة، كلا.
وفي نظرة على مواقعهم الإلكترونية، ستجد أنّ منصتين إخباريتين، إحداهما قانونية الهوى، يديرهما شقيقان، وزوجة أحدهما عاملة في منصة ثالثة تنشط على الساحة السورية (المستقلة أيضاً). ومنصة رابعة يديرها زوجان وصديقة لهما، يتكلان على المال الأوروبي بعد شحّ المال السعودي، وهناك منصة مستقلة خامسة يديرها شابان منتسبان إلى القوات اللبنانية، ومنصة مستقلة سادسة باللغة الإنكليزية تديرها شابتان إحداهما عضوة في منظمة «كلنا إرادة»، لتكتشف في المحصّلة أنهم يشكلون «شبكة علاقات» واحدة. يدورون في فلك بعضهم مع مجموعة من الأقارب والأصدقاء وإعلاميين عاملين في محطات «السلطة»، وتمويلهم يأتي من المصادر الغربية نفسها، ولا يختلفون عن أي دائرة إعلامية «تقليدية» أخرى، ولو أرادوا إقناع أنفسهم عكس ذلك.
أما بالنسبة إلى عدم ارتباطهم برجال أعمال وأجندات سياسية، فإنّ لوائح مموّليهم المنشورة على مواقعهم لا تحتاج إلى تفنيد حتى. فبدل أن يكون رجل الأعمال الملياردير خليجياً، اختار هؤلاء تمويلهم من رجل أعمال ملياردير أميركي (جورج سوروس)، وبدل التمويل من قطر وإيران والسعودية مثلاً، اختار هؤلاء تلقي تمويلهم من «صناديق تمويلية» تديرها الحكومة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي التي تناسب قناعاتهم وليبراليتهم. يعني باختصار أصبحت الساحة الإعلامية تضمّ ممثلين عن مختلف اللاعبين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والإعلام البديل ما هو إلا ممثلاً وبوقاً لدول الاستعمار النشطة في بلادنا، يعمل بلا كلل لنشر سرديّاتهم على شتى الجبهات. بل إنّ الناطقين باسم هذه الدول والصناديق التمويلية، مثل رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون درلاین، يستشهدون بكتابات هذه المنصات المستقلة التي يدعمونها، كدليل على وجود معارضات محلية تتوافق مع أجنداتهم ضد أعدائهم في العالم، بينما في الحقيقة، فإنّ أورسولا هي ممول أساسي لهذه المنصات، وبالتالي مالكة هذه المنصة بشكل أو بآخر. (منصة كييف أندبندنت هي النسخة الأوكرانية للإعلام البديل المستقل الممول من الاتحاد الأوروبي والمجنّدة ضد روسيا بطبيعة الحال).
«سوروس» راعي الثورات الملوّنة وأحد المموّلين لهذه المنظمات والمنصات البديلة ولكنه ليس الوحيد وبالتأكيد ليس الأهم


مقاومة العدو ليست أولوية
بالنسبة إلى الممولين، فإنّ هذه المنصات والمنظمات المستقلة البديلة تمثل «المرصد الداخلي» الذي يسلّط الضوء على المشكلات المحلية والانتهاكات الحقوقية التي تمارسها الحكومات بحق شعوبها، مع تشديد دائم على أن هذه المنصات ومن يديرها لا ارتباط سياسياً لهم داخل البلد أو خارجه، أو القول إنه لا يوجد ميول سياسية لديهم – وكأن الارتباط أو الميول السياسي معيب - ، ومع الوقت، كبر نشاط هذه المنصات، ولم تعد تنحصر منشوراتهم بالشؤون الداخلية للبنان مثلاً، بل توسّعت تغطيتها لتشمل بلداناً أخرى، حدّدوا عبرها سياستهم وخطّهم التحريري: هم يعارضون كل السلطة في لبنان، مع تركيز مكثّف على حزب الله والتيار الوطني الحر، ثم هاجمت منشوراتهم المنتظمة والمضلّلة «التطبيع» مع سوريا وقمع إيران للناشطين، كذلك اتهام حزب الله وأنصار الله في اليمن وحماس بأنهم ضد النساء. قبل أن يهاجموا إرسال روسيا مرتزقة من سوريا لحربها ضد أوكرانيا، علماً أنها رواية نفاها البنتاغون نفسه لاحقاً. ولإضفاء المزيد من التنوّع على تغطيتهم (وبالتالي المزيد من التمويل)، تجد على منصاتهم أحداثاً متفرقة حول العالم فرضت نفسها لتكون الخبر، بما في ذلك فلسطين المحتلة.
ورغم القتل اليومي للفلسطينيين على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، والاعتداءات الوحشية في المسجد الأقصى، وتدمير منازل عائلات المقاومين في الداخل الفلسطيني، وعمليات الطعن والقتل للمستوطنين الإسرائيليين على يد شبان فلسطينيين، لم تحتل أخبار فلسطين المحتلة صفحات هذه المنصات، ولم تعد أولوية سياسية لها، عكس البلدان التي ذكرناها أعلاه. ويمكن لأي متابع أن يحصي عدد المنشورات عن فلسطين مقابل عدد المنشورات عن سوريا مثلاً، ليعرف أولويات هذه المنصات البديلة والمستقلة في البروباغندا والتحريض. وبالكاد تتمايز هذه المنصات بمواقفها من المقاومة ومن الاحتلال الإسرائيلي. ففي حين تدّعي منصة ما أنها مناصرة للمقاومة المسلحة في فلسطين، تتجنّب في تغطيتها التحشيد لحركات المقاومة، كما تحشد للمعارضة السورية مثلاً أو حتى الأوكرانية. كما تتجنب قدر المستطاع إدانة العدو الإسرائيلي بشكل واضح وتكتفي بنقل الخبر من فلسطين المحتلة كما هو (عندما يفرض الحدث نفسه) على شاكلة «قتل الاحتلال الإسرائيلي 5 فلسطينيين اليوم في نابلس في عدد هو الأكبر منذ بداية العام» – انتهى الخبر. كما تحرص هذه المنصة طوال العام، على تبني الأكاذيب عن حركات المقاومة في المنطقة مستشهدة بنصوص العقوبات الأميركية التي تتهم المقاومة بتجارة المخدرات وتبييض الأموال، من دون تشكيك أو حتى تساؤل. وفعلياً، تلعب هذه المنصة دوراً أساسياً في السعي إلى تقويض دور حركات المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، عبر التبخيس والتسخيف بقدرات المقاومة أو تصريحات قادتها بشكل شبه يومي. بينما تعتمد منصة أخرى، موقفاً أكثر وضوحاً، فتدعو علناً إلى السلام مع إسرائيل، وتنشر فيديو مصوراً تدين فيه «حماس على ما اقترفته بحق مدنيين إسرائيليين»، وتخوّن حركات المقاومة ومناصريها بشكل دائم متهمة إياهم أنهم إيرانيون، وتتجنب بشكل واضح استخدام مصطلح المقاومة والشهداء، بل وتدعم السردية الإسرائيلية في أن المقاومة تلحق الأذى بالمدنيين عبر تغلغلها بين المنازل، حتى قبل أحداث 7 أكتوبر.

ما قبل 7 أكتوبر كما بعده
بعد بداية الحرب في 7 أكتوبر، توقع كثيرون - مع ازدياد المطالبات عالمياً بمقاطعة كلّ ما يدعم العدو الإسرائيلي - أن يتخذ القيمون على منصات «الإعلام البديل» موقفاً حاسماً من مموّليهم بعدما اتضح حجم نفاقهم ومشاركتهم الفاعلة في حرب الإبادة على غزة، أو على الأقل انتقاد مموّليهم لقطعهم التمويل عن زملائهم في فلسطين المحتلة. لكن، أيٌّ من ذلك لم يحدث. بل على العكس، عدّل المشرفون على هذه المنصات من لهجتهم، «الموضوعية أصلاً»، ضمن السقوف المسموح بها كي لا يتهموا بمعاداة السامية، واستغلوا تخبط السياسيين الأوروبيين والأميركيين بشأن غزة كي لا ينشروا موقفاً واضحاً بشأن ما يحدث. فشهداء حزب الله في الجنوب يوصفون بالـ «قتلى»، وعمليات المقاومة في غزة والعراق واليمن لبنان تنقل كخبر عابر، وحماس تدان على أسرها لمستوطنين، وتوجه تنبيهات رسمية لصحافيين عاملين في هذه المنصات عند رفضهم التماهي مع سردية إسرائيلية تلوم المقاومة على افتعال الحرب، بدل توجيه السهام نحو القاتل الإسرائيلي. الأسلوب الترهيبي نفسه الذي تعتمده وسائل الإعلام الغربية التقليدية والمؤسسات الغربية الصهيونية في وجه العاملين لديها والذين يعبرون عن رأي مغاير يخص إسرائيل، بدأ يستخدمه مديرو المنصات البديلة والمستقلة في لبنان إذا ما عبّر العاملون لديهم عن رأي مغاير فيما يخصّ المقاومة. ولا عجب، فازدواجية المعايير لدى المموّل، ستنتقل حكماً إلى الذي يعتاش من تمويلهم، مع العلم أن جزءاً كبيراً من هذا التمويل مخصّص أيضاً لإبادة الفلسطينيين في غزة وقتل اللبنانيين في الجنوب.

مموّل الإبادة والإعلام البديل.. واحد
خمسة أشهر مرّت ولم تنجح أيّ مساع أو تباينات سياسية في وقف الإبادة في غزة. والضوء الأخضر الذي أعطي لإسرائيل للإمعان في قتلنا، يستغله العدو حتى آخر نفس، غير مهتم لا لمحاكمة دولية ولا لمجلس أمن ولا منظمات حقوقية. فمن يتحكم بكل هؤلاء، مالاً وسلطة، هو نفسه من يموّل العدو بالسلاح والموقف والإعلام.
يكثر في إعلامنا الكلام عن أسطورة «سوروس»، راعي الثورات الملوّنة، والبعبع الذي يهدف إلى تدمير مجتمعاتنا. وهو بلا شك أحد المموّلين الأساسيين لكل هذه المنظمات والمنصات البديلة، ولكنه ليس الوحيد، وبالتأكيد ليس الأهم. تحيط برجل الأعمال جورج سوروس روايات عديدة تنبع أساساً من حزب المحافظين الجدد واليمين المسيحي الذي يرى في سوروس تهديداً بسبب قيمه الليبرالية وثروته ودعمه المادي الكبير للحزب الديموقراطي الأميركي. فسوروس وجمعيته تكملة لأجندة الحزب الديموقراطي. وفي نظرة على موقع جمعيته، يتبين لنا أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحظى بأقل نسبة تمويل مقارنة بالولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وأفريقيا التي تحتل المراتب الأولى في التمويل. وبعكس سوروس، تولي أداة الاتحاد الأوروبي أهمية كبرى للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتتساوى نسبة التمويل مع تلك المخصصة لبلدان البلقان وتركيا. وبالنسبة إلى الدعم الأميركي، عبر USAID تحديداً، تحتل منطقة الشرق الأوسط المرتبة الأولى بالتمويل منذ عام 1946 وإسرائيل تتلقى الدعم الأكبر. وفي حين أنّ لسوروس مكتباً إقليمياً واحداً في الأردن، فلدى الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا والسويد سفارات عاملة وناشطة في لبنان. ويجتمع السفراء وموظفو السفارات والحكومات الخارجية دورياً بممثلي المنصات الإعلامية البديلة وبممثلي منظمات غير حكومية. وعلى كل حال هذا ليس بالأمر المخفي، إذ إنه يمكن لأي شخص أن يتتبع صفحات ومواقع المموّلين والسفراء على السوشال ميديا، ليجد صوراً وأخباراً تجمعهم بممثلي هذه المؤسسات، في إطار ندوة أو مؤتمر أو أي اجتماع دوري. وبالإضافة إلى عملهم العلني كمنصات إعلامية مستقلة، يقدم القائمون على هذه المنصات أيضاً خدمات إبداعية للبعثات والسفارات الديبلوماسية الغربية ويعرضون عليهم تصميم حملاتهم الدعائية أو حملات دفاعية تروج لسردياتهم وسياساتهم ولتحسين صيتهم وصورتهم في لبنان والعالم العربي. ختاماً، وبالرغم أن الإعلام البديل والمنظمات المستقلة ومن خلفهم ينفذون عمل الجندي المرتزق لبلاد الاستعمار مستعينين بمال أميركي ملطخ بالدماء أو بمال حكومة ألمانية فاشية، فعدونا الحقيقي هو هذه الحكومات وهذه السفارات وهذه الصناديق التي تمول قتلنا وإبادتنا بالسلاح الذكي.. وبالإعلام البديل.
* اختصاصية في الاعلام والتواصل