علينا في البداية، حتّى نصوّب النقاش، أن نعترف بوضوحٍ أنّ دبيّ قد نجحت خلال العقود الماضية، وبشكلٍ واضح، في تحقيق هدفٍ محدّدٍ كانت تصبو إليه، يتمثل في جعل المدينة مكاناً جاذباً لفئة معيّنة من النّاس، هي فئة الإداريين والمدراء التنفيذيين في الشركات العالميّة. وهذا أسهم في جعل دبيّ المقصد المفضّل لكلّ شركةٍ دوليّة تريد افتتاح مركزٍ لها في الإقليم، لتصبح دبيّ «مرجلاً» تختلط فيه مختلف الشركات الدوليّة، في مكانٍ واحد، مع نشاطات الأعمال والتمويل واللوجستيات. فلنعترف، بدايةً، بهذا الشيء ونعطه حقّ قدره، لا أكثر ولا أقل.أقول هذا لأنني بصراحة لا أحبّ المبالغة في خطاب الفوقية العكسية (reverse snobbism) الذي يتكرّر كلّما ذُكر اسم دبيّ في نقاش، أي سرديّة «مدن الملح»، وكيف أن دبيّ «مصطنعة» و«بلاستيكيّة»، بلا روحٍ إلخ. سواء جاء هذا الكلام من بورجوازي يريد أن يوحي أنّه «عميق» وكوزموبولوتي حقّاً، لا ترضي أذواقَه المعقّدة مدينةٌ فاقعة مثل دبيّ، أو صدر عن عربيّ، أنا مثلاً، هو ليس في الأساس ضمن الجمهور الذي تستهدفه المدينة المعولمة (أي إنّهم لا يريدونك أصلاً ولم يدعوك لعندهم حتى ترفض الدعوة، وإن كانت تهمّك لهذه الدرجة أمورٌ مثل «الأصالة» والروح وعبق التاريخ فلتظلّ في الشام أو في صيدا ولا تبرحها).
للأمانة، ولفترةٍ طويلة في الألفينات، كانت دبيّ عبارة عن دعايةٍ ووعدٍ مستقبلي أكثر مما هي واقع معاش: مشاريع لا تزال على الورق، ازدحام خانق، ومعظم المدينة عبارةٌ عن ورشة بناء مستمرّة. ولكن في مرحلة معيّنة، بعد عام 2011، أصبحت دبيّ «كلّاً» أكثر انسجاماً مع بعضه (it gelled). اكتملت أكثر البنى التحتيّة، قلّت المساحات الفارغة، وأصبحت هناك كتلة حرجة من الشركات والأعمال والموظفين تتمركز وتعيش في المدينة. وما يهمّ هذه الفئة «العالمية» من الناس هي ليست الآثار والأزقّة التاريخية، بل أن تكون «قاعدتك» في مكانٍ يسهل الوصول إليه، ضرائبه قليلة، فيه مستوى مرتفع من الخدمات، معاملات سهلة وإلكترونية، وإمكانية أن تشتري ما تريد إن كنت مستعدّاً لدفع ثمنه - وهذا ما تقدّمه دبيّ.
هو شيءٌ يختلف عن مفهوم «الفخامة» والتّرف. ترجمته العربيّة قد تكون أقرب إلى فكرة «الدّعة» (convenience) أن تلبّى حاجاتك العملية بشكلٍ سهلٍ وسريع ومسعّر بوضوح، وهذا في الأساس اختصاصٌ أميركي. سوف تلاحظ في أميركا أنّ غالبية أهلها - حتى الطبقات العليا، التي تعرف لغاتٍ وتسافر كثيراً - يصعب عليها العيش على المدى الطويل في أيّ مكانٍ آخر غير أميركا. ونحن لا نتكلّم هنا عن الانتقال من سان فرانسيسكو إلى لاهور، بل إلى باريس أو لندن والمدن الأوروبية التي يعشقونها. هذه المفارقة كانت تلفتني على الدّوام. هم قد يذهبون إلى أوروبا للزيارة أو لقضاء أشهر بحثيّة، ولكنّك حين تطرح احتمال الحياة المديدة هناك، وهو يبدو لك بديهياً، يشرحون كيف أنهم يستصعبون الحياة في أيّ بلدٍ آخر. كان عند أسعد أبو خليل تفسيرٌ لهذه الظاهرة، مختصره أنّه إن كنت من الطبقة الوسطى فما فوق، فأميركا هي بلد «الدّعة» (convenience)، وهذه ميزتها الأساسية. كلّ شيءٍ متوافر وسهل، رأسمالية تعطيك بسرعةٍ ما تريده إن كنت تقدر على دفع ثمنه، كمّ البيروقراطية بسيط ومستوى خدمة الزبون مرتفع. ومن يعتاد على هذا النمط من الحياة السهلة يرى النظام في أيّ مكانٍ آخر إرهاقاً ومشقّة. وهذا الامتياز كان أكثر وضوحاً قبل العولمة، في الثمانينيات مثلاً، حين كنت تطلب خطّاً هاتفياً في أميركا فتحصل عليه في اليوم نفسه أو اليوم التالي، فيما تستغرق العملية في أوروبا أشهراً، وفي دول العالم الثالث مثل لبنان وسوريا كنت تحتاج إلى أن تعرف الشيطان لكي تحظى برقمٍ هاتفيّ.
إن كنت تعيب على لبنان مثلاً إفلاسه وفشله، وهذا مفهوم، فمن الواجب أن نتذكّر أنّ دبيّ أيضاً قد أفلست، وهي قد سبقت لبنان إلى ذلك، بعقدٍ تقريباً، وبشكلٍ أكثر حدّةً وكارثيّة، وأنقذها نفط أبو ظبي


جيلي، في المناسبة، قد رافق دبيّ منذ بداية «صعودها» كعقدة من عقد العولمة ورموزها. منذ التسعينيات حتّى، حين كان زبائنها الأساسيون هم السياح الروس وعائلات المافيا، الذين كانوا يستثمرون في المدينة ويتبضّعون في سوقها الحرّ، وكانت «طيران الإمارات» شركةً إقليمية بأسطولٍ من عشرين طائرة تتنافس مع «طيران الخليج»، وكان «الترويج السياحي» لا يزال على مستوى تلفزيون «ال بي سي» اللبناني، وبرامج المسابقات التي تربح في آخرها رحلةً إلى دبيّ - التي لم نكن نعرف أن فيها سياحة. حين تخرّجنا من الجامعات، انقسمنا فعلياً إلى كتلتين كبيرتين، جزءٌ منّا ذهب إلى الغرب والآخر توظّف في الخليج ودبيّ خاصّةً، بمعنى أنّني لو ذهبت هناك فسوف أجد عدداً من أصدقاء الطفولة والمدرسة أكثر ممن سألقى في صيدا. صديق طفولتي ذهب إلى دبيّ وعايش صعودها منذ عام 2001 (هو يدعوني باستمرارٍ لزيارته ولكني أخاف من الإماراتيين)، وهو دليلٌ حيّ على ما نحاول شرحه أعلاه. في مرحلةٍ معيّنة، اكتشف صديقي - كأكثر من يطيل المقام في الخليج - أنّه مهما حقق من نجاحٍ مهنيّ، فهو يحتاج إلى حماية من خلال الحيازة على جواز سفرٍ أجنبي وضماناته، وأن يتخلّص بأسرع ما يمكن من جواز السفر الذي ولد به. المهمّ، عرضت عليه فرصة الانتقال إلى سنغافورة، وهي لديها برنامجٌ يقدّم الجنسية للأفراد ذوي المراتب العليا والمهارات، فأقام هناك لبضعة أشهرٍ ثمّ قرّر العودة إلى دبيّ واستئناف حياته فيها. لماذا؟ «لأنّ كلّ ما تجده في سنغافورة - من وجهة نظره واحتياجاته - ستجده في دبيّ، أو هو أسهل فيها» (أنا، مكانه، كنت سأختار سنغافورة على الأرجح، ولكن لأسبابٍ تتعلق بالطعام). منذ فترةٍ، حصل صديقي على الإقامة الذهبيّة، مثله مثل راغب علامة، وكان عندي فضولٌ لمعرفة تفاصيل هذه الإقامة وامتيازاتها، واسمها الدعائي البرّاق يوحي لك بأنها تأتي مع مليون دولار وسيارة لامبرغيني، فأرسل إليّ صديقي الـ«بروشور» الذي يرافق «الإقامة الذهبية» ويشرح مزاياها، فتبيّن أنها تعطيك حسوماتٍ في بعض الأماكن.

أبراج الغرور
الشيء الأساسي الذي نريد قوله هنا ليس عن دبيّ نفسها، بل هو موجّهٌ إلى اللبنانيين وغيرهم من العرب الذين لا يكفّون عن المقارنة بين دبيّ وبين بلادهم، ويدعوننا للتمثّل بالإمارة الخليجية. إن كنت قد وجدت عملاً في دبيّ، وكانت فرصة ماديّة قد غيّرت حياتك ومسارك المهني وأنت سعيدٌ بالصفقة، فهذا ممتاز ونحن سعداء من أجلك. وإن كانت تبهرك فعالية الخدمات هناك فنحن جميعاً، صدّقني، نحبّ أن نعيش مع شوارع واسعة وكهرباء ورخاء (ولكن ليس مع الطّقس هناك). ولا شيء غريباً في أن تترك بلدك سعياً خلف حياةٍ أفضل حيث الفرص، نحن وصلنا إلى غرب أفريقيا والباراغواي، فهل سنعفّ عن دبيّ؟ المشكلة الوحيدة هي في المقارنة، وفي أن يحاضر اللبناني على أهل بلده المفلس عبر الإشارة إلى نموذج دبي «الناجح»، ويطلب منهم - بثقة محدث النعمة وفوقيّة من يلعب دوراً ليس له - أن يتشبّهوا بمكانه الجديد ونموذجه وحكّامه. هنا تبدأ المشكلة.
من الناحية المنطقية البحت، إن كنت تعيب على لبنان مثلاً إفلاسه وفشله، وهذا مفهوم، فمن الواجب أن نتذكّر أنّ دبيّ أيضاً قد أفلست، وهي قد سبقت لبنان إلى ذلك، بعقدٍ تقريباً، وبشكلٍ أكثر حدّةً وكارثيّة. نحن نتكلّم عن إفلاسٍ شرعيٍّ مكتمل الأركان. بعيد أزمة 2009 المالية انتهت أيام الفقاعة العقارية في دبي وانهارت السوق، عجزت الشركات العقارية الكبرى (وأكثرها مملوكٌ للدولة) عن دفع قروضها للمصارف، وأكثر أصول المصارف هي في القروض العقارية الهائلة. بالمعنى التقني البحت، كلّ شيءٍ هنا انتهى، السوق والدولة والمصارف قد سقطوا جميعاً. هنا تظهر فجأة الأخت الكبرى، إمارة أبو ظبي النفطية، وتنقذ دبيّ عبر ضخّ عشرات المليارات من الدولارات (تمّ وقتها تغيير اسم البرج الشهير في المدينة، قبيل افتتاحه، من «برج دبي» إلى «برج خليفة»). وحين استحقّت أقساطٌ جديدة بعدها بسنوات قامت أبو ظبي مجدّداً بتغطيتها. ودبيّ تحصل أصلاً على التمويل الذي تريده، وبفوائد منخفضة، لأنّ المصارف تعرف أنّ هذه القروض مضمونة - بشكلٍ أو بآخر - بالدخل النفطي للإمارات. بتعبير آخر: حتّى لو افترضنا أن دبيّ هي فقط دبيّ التي يعرفها خرّيجو الجامعات الخاصة من اللبنانيين، وتناسينا 80% من سكانها المعدمين؛ ولو تناسينا أيضاً كامل السياق الجيوسياسي الذي خلق دبيّ وخرّب ما حولها، والنفط ومئات الملايين من المستفيدين والضحايا. لو تناسينا هذا كلّه وأردنا أن «نصبح دبيّ» ونستوحي منها ونقلّدها، فهذا اقتراحٌ جميلٌ ومقبول، ولكن بشرطٍ واحدٍ ضروريّ، هو أن تأتي معها أبو ظبي.
تتكلّمون عن الهدر في لبنان، هل زرتم دبي؟ جميع النّاس قد سمعوا بجزيرة «النخلة»، المشروع العقاري مقابل شاطئ جميرا، ولكنّ أهل دبيّ يعرفون أنّك على بعد دقائق منها سوف تجد «نخلةً» ثانية مقابل جبل علي، أكبر من «نخلة جميرا» بكثير، وقد تمّت غالبية أعمال الردم فيها والإنشاءات، وكلّفت مليارات الدولارات، ولكنّها ظلّت عارية من البناء مهملة منذ عام 2009 لأنّ التمويل توقّف والسّوق انكمش. ولو ذهبت في الاتجاه المعاكس سوف تلاقيك أيضاً بقايا نخلة «ديرة»، وهي أكبر من الاثنتين، وهي أيضاً متروكة منذ عقدٍ ونصفٍ يأكلها البحر. أمّا لو أخذت القارب قليلاً في البحر مقابل دبيّ، فستكتشف عشرات الجزر الاصطناعية التي أقيمت في المرحلة ذاتها في عمق البحر، بملايين الأطنان من الرمول والأتربة، ولم يتمّ بيعها أو البناء عليها. أنت لم تقم بتشويه ساحلك فحسب، بل فعلت ذلك بلا سبب أو عائد. استمتع بحياتك الجديدة في دبيّ، يا عزيزي، ولكن لا تكلّمني - وأنت تداعب نمرك الأليف - عن الفساد والهدر، بل كلّمني عن الحظّ والمصادفة التاريخية، وعن انعدام العدالة في الدنيا. الجزر الاصطناعية المهجورة، بالمناسبة، تمّ توزيعها على شكل خارطة العالم، وهذه كانت فكرتها المعماريّة -التسويقيّة، لأنّه يبدو وكأنّ خلف كلّ تلك المشاريع يومها معماريّ واحد طفل. حتّى يكتمل الكيتش، كان من المفترض أن تتميّز «نخلة جبل علي» بشاليهات توضع في المياه بين «سعف» النخلة، وأن تشكّل هذه الشاليهات مجتمعة، إن رأيتها من السماء، قصيدة عربيّة. وماذا اختاروا هنا، من صفحات التراث العربي كي تمثّله؟ قصيدة لحاكم دبيّ، وفيها معانٍ حضارية وإنسانية عميقة بالطّبع (كلماتها كانت على طريقة «أكتب على الماء ومن مثلي كتب على الماء»).
دبيّ التي ترونها اليوم ليست شيئاً، أمام ما كان مرسوماً لها حين انفجر السوق العقاري لسنوات قبل عام 2009، وانهال التمويل وافترض البعض أنّ هذه الفقاعة سوف تدوم إلى الأبد. مشاريع مثل «مدينة محمد بن راشد» كانت ستضاعف مساحة دبيّ وتبني في كلّ بقعة فيها، حتى تصبح مثل كوكب «كوراسنت» في «حرب النجوم» (الكوكب - العاصمة الذي لا ترى بقعةً من أرضه بسبب كثافة البناء عليه وارتفاعه). يومها، كان هناك مشروعٌ هائل لتطوير منطقة ساحلية كبيرة لا تزال فارغةً في جبل علي، تقريباً على الحدود مع أبو ظبي. رسا التصميم يومها على المعماري الهولندي رِم كوولهاس، وكان المشروع الفائز مثيراً: المساحة بأكملها سوف تملؤها أبنية ضخمة لا شكل وتصميم لها، بل مجرّد أشكال هندسية بدائية، مكعّب، مستطيل، دائرة، وهكذا. ابحثوا عن المخطط، لا بدّ أنكم ستجدونه في مكانٍ ما على الإنترنت. وكان تعليل كوولهاس لرؤيته هو أنّه، في المدن «بعد الحداثية» المعولمة مثل دبيّ، أصبح كلّ مبنىً يحاول التميّز والتفرّد عن غيره عبر التصميم الغرائبي و«الجديد»، ما يجعل ناطحات السحاب هذه تبدو في نهاية الأمر متشابهة في سعيها إلى أن يكون كلّ منها مختلف. من هنا، كتب كوولهاس في تقديم المشروع، يصبح التصميم الثوري هو ذاك الذي لا يحاول أن يتبع هذه النزعة، بل يذهب بشكلٍ جذريٍّ ضدّها، وتكون الأشكال الصمّاء هذه بمثابة تعليقٍ على خواء ما بعد الحداثة ومشروعها. حتّى تفهموا السياق والخلفية هنا: من المعروف عن كوولهاس أنّه كثيراً ما «يلعب» مع زبائنه، أو يسخر منهم حتّى. بمعنى: «أنتم ممثّلو مدينة طرفية هامشية، بلباو أو أستانة في كازخستان، وتريدون استخدام معماريّ عالميّ لكي تضعوا أنفسكم على الخارطة؟ حسنٌ، سأعطيكم مبنىً يوافق مفهومكم عن آخر صرخة في العمارة الدوليّة، وسيكون شكلاً غريباً، غير مفهومٍ، وربما ليس خلفه معنى. ولكنك سوف تفخر به وتتأمّله بإعجاب وترى فيه أموراً أنا نفسي لم أرها» (مكتبة سياتل العامة مثالاً، أو مبنى «الضفدعة» على نهر امستل في أمستردام، الذي لا يشبه الضفدع، بل يماثل تماماً حاوية قمامة كبيرة). ولو أنّ الأزمة في دبيّ قد تأخّرت لسنوات، لكان هذا الشيء قد بُني بالفعل، وكانت مبانيه التي تشبه عدّةً هندسيّة ترتفع اليوم بفخرٍ على ساحل دبيّ.

اقتصاد الخدمة والانتهازي
لنا صديقٌ يعرف دبيّ والإمارات قبل مرحلتها «المعولمة»، فهو تربّى في أبو ظبي في الثمانينيات، في وقتٍ كان فيه الأولاد من مختلف الجاليات العربية يدرسون مع الأولاد الإماراتيين في المدارس ذاتها. التعبير الذي يستخدمه هو أنّ أبو ظبي يومها كان لها «شخصية عربية». أكثر الجاليات عربية وتتخالط، في المدينة العديد من المراكز الثقافية والمكتبات التي تقدّم ثقافة عربية يمكن أن يستفيد منها الأحداث مجّاناً. حتى السوق الرئيسية في العاصمة كانت من تصميم معماريّ عراقيّ، وفقاً لمفاهيم تستوحي من التراث (تمّ هدم السوق في السنوات الماضية واستبدالها بمجمّعٍ مع ناطحات سحابٍ هائلة لا يمكن أن تعرف، إن نظرت إليها وحدها، إن كانت في دبيّ أو سنغافورة أو شنغهاي). الشاطئ خارج أبو ظبي، الذي أصبح محجوزاً لفنادق ضخمة وقصور الحكّام، كان لا يزال على حاله الطبيعية، مكاناً نائياً تذهب إليه العائلات للتنزّه في العطلات. الهدف هنا هو ليس العزف على النوستالجيا، بل أن نوضح كيف أنّ كلّ نمط إنتاجٍ يفرز ثقافته وشخصيته.
لا حاجة إلى أن تكون خبيراً اقتصادياً لكي تفهم حدود الاستثمار في العقار وما يجاوره من أنشطة. بعد حدٍّ معيّن، يصبح توسّع سوق العقارات أفقياً أو عامودياً، عبر البناء الجديد أو ارتفاع قيمة الملكية العقارية نفسها، محدوداً بتوسّع الطلب، أي عدد السكّان، ومستوى مدخولهم. وحين يسبق السوق الطلب أو تصبح أسعار العقارات أعلى من قدرة الناس على شرائها تحصل الفقاعة ويأتي بعدها الانهيار أو التصحيح. الأمر ذاته ينطبق على رهان «العولمة» ونموذج دبي واجتذاب الشركات الكبرى وموظفيها. اسأل من يعمل في دبيّ في وظائف تنفيذية هناك، كلّهم تقريباً يقومون بالعمل ذاته: تسويق منتجات الشركات الدوليّة في الإقليم. لا أحد فيهم يجري أبحاثاً أو يخترع شيئاً أو ينتج قيمةً مضافة، وهذه هي النشاطات التي تولّد الوظائف وترفع من دخلك باستمرار.

ما يهمّ هذه الفئة «العالمية» من الناس ليست الآثار والأزقّة التاريخية، بل أن تكون «قاعدتك» في مكانٍ يسهل الوصول إليه، ضرائبه قليلة، مع معاملات سهلة وإلكترونية، وأن تحصل على ما تريد إن كنت مستعدّاً لدفع ثمنه


إضافة إلى ذلك، فإنّ هذا «الدور» من الممكن بسهولةٍ أن ينقسم على أكثر من مكان، كما حصل مع شركات الطيران الإماراتية ومع المرافئ، فلا سبب لأن تستلم مدينة واحدة كلّ هذه الأنشطة إلّا إن كان كلّ ما حولها خراباً أو مهملاً. تحاول السعودية اليوم أن «تجبر» الشركات الدولية على توطين مقرّاتها في الرياض بدلاً من دبيّ (تريدون أن تبيعوا في السّوق السعودية؟ إذاً اجعلوا مقرّكم عندنا وليس عند منافسينا). وكلّ بلدٍ عربيٍّ طامح، من طنجة إلى بغداد، يحاول أن يستنسخ دبيّ أو نواحٍ منها. وفي الحقيقة، فإنّ بلداً كمصر يمكن، بهذه المعايير، أن يصبح بسهولةٍ تنافسياً مع دبيّ ويأخذ من سوقها. حين تقوم مصر بإعادة تشكيل اقتصادها بأكمله ليصبح جاذباً للاستثمار، وتبني مدناً كاملة لهذه الفئات فيها خدمات واتصالات وترفيه على مستوى دولي. ومع تسهيل المعاملات البيروقراطيّة، تصبح «المدن الجديدة» في مصر بديلاً مناسباً ورخيصاً عن دبيّ، وهي في وسط أكبر سوقٍ في الشرق الأوسط. الفكرة هي أنّ هذا النمط من التنمية يتمّ استهلاكه بسرعةٍ نسبياً، وهو في ذاته يستدعي كلّ أشكال التنافس والاستنساخ.
ما نريد الوصول إليه هو أنّ التشابه بين مشاريع هذا الرئيس وذاك هو ليس فقط نتيجة انبهارٍ بأبنية دبيّ وتقليدٍ أعمى، ولا هو بسبب «فقرٍ فكريّ» يجعلهم لا يفهمون المعنى الحقيقي للتنمية. بسبب الدّور الذي تلعبه دول مثل السعودية ومصر في النظام الدولي، وطريقة اندماجها في السوق العالمية، فإن البدائل التنموية تصبح مستحيلةً من الأساس. كما شرحنا في السّابق، حين تكون عملتك حرّة لا تتحكّم فيها، وقدرتك على التأثير في الاستيراد والاستهلاك معدومة، لا يعود في وسعك أصلاً أن تنفّذ «سياسة صناعية» على طريقة ألمانيا أو الصين (وقبلها كوريا واليابان وتايوان، وكلّ بلدٍ عبر بنجاحٍ إلى العصر الصناعي في القرن الأخير). لا يعود في حوزتك من أدواتٍ هنا سوى المصرف المركزي. وفي دولٍ نفطية تربط عملتها بالدولار، كالسعودية وأكثر دول الخليج، يصبح دور المصرف المركزي ذاته نافلاً إلى حدّ بعيد، فقيمة عملتك ومعدّل الفائدة لا تقرّره أنت، بل هي ترتبط بقيمة الدولار وسياسات المصرف الفيديرالي. هنا، تصبح حزمة «نموذج دبي» هي الشكل الوحيد المتاح المتبقّي: عقارات وفنادق وتمويل - الثلاثي الشهير لنشاط رأس المال الدولي في الدول الطرفية: التمويل والتأمين والعقارات (FIRE). ويصبح الهدف الوحيد للسياسات الاقتصادية والإصلاح هو أن تجعل بلدك «مناسباً» لرأس المال الدّولي وممثّليه، كي يشتروا سنداتك وينشّطوا سياحتك ويقيموا مقرّاتهم لديك (كم نسمع اليوم، في مصر وغيرها، امتشاق تعبير «هذا ينفّر المستثمر الأجنبي» - كورقة الجوكر - إن أراد أحدهم التبخيس في سياسةٍ ما وانتقادها).
الأسوأ هو أنّ هذا النمط الاقتصادي له كلفةٌ سياسيّة هائلة، إذ هو يقوم، مثلاً، على الاندماج بالسوق العالمية، فلا مجال لأن تغضب القوى الدولية الكبرى أو تخالفها في شيء؛ بل أنت تتنافس مع غيرك على اكتساب حظوتها وأن تصبح أنت البلد الطرفيّ المفضّل عندها في الإقليم، وأيّ اختلافٍ جدّي معها، وإن كان في مسألة وجوديّة تخصّك، يجعلك بسرعةٍ «غير قابل للاستثمار». اقتصاد السياحة والبزنس بالغ الهشاشة ولا يحتمل القلاقل والحروب، عليك إذاً أن تنسى أموراً مثل مواجهة الاحتلال أو المقاومة أو إغضاب إسرائيل، وهذه ستصبح بسرعةٍ – في منطقك – أفكاراً انتحاريّة يعتنقها المهاويس. وفي منطقة حربٍ واحتلالٍ وصراع، فإنّ الفكرة هنا بأكملها تقوم على أن «تتذاكى» وتنجو بنفسك على حساب الآخرين (وفكرة «الواحة» هذه، وأنك قد أنقذت نفسك من قدر جيرانك التعس، تجدها مركزية في خطاب الموالين لأنظمة «الاعتدال»). بتعابير أخرى، فإنّ هذه الطريق تجعلك، بشكلٍ تلقائي وعقلاني، «حقيراً سياسياً». وعلينا في السياسة أن نتذكّر دوماً أنّ الفارق بينك وبين من يخالفك هو ليس أخلاقيّاً، أشرارٌ وأبطال، ولا سببه أنّ هناك جهلة يحتاجون إلى تنويرٍ لكي يروا ما تراه ويتغيّروا. الاختلاف السياسي بين الناس هو أوّلاً اختلاف المصالح والمواقع بينهم، داخل مجتمعهم وعلى مستوى العالم، ولهذا السبب لا يمكن لكلّ الكلام والأيديولوجيا والمبادئ أن تغيّر ما في النّاس إن لم يتغيّر واقعهم المادي.