خلال أقلّ من أسبوع، كانت تركيا على موعد مع ثلاثة أحداث عكست أزماتها البنيوية الثلاث الرئيسة. تَمثّل الحدث الأول في اعتقال مدير محطّة «تيلي 1» المعارضة، ميردان ينارداغ، في الـ27 من حزيران الماضي، بتهمة مناصرة «الإرهاب الكردي» والدعاية له، على خلفية ما أدلى به من تصريحات في برنامج «4 أسئلة و4 أجوبة»، اعتبر فيها أن «العزل المطبّق على عبدالله أوجالان لا يستند إلى أيّ أساس حقوقي. لقد أصبح من كثرة القراءة فيلسوفاً. إنه ذكي إلى أقصى درجة»، علماً أن زعيم «حزب العمال الكردستاني» معتقل منذ 15 شباط 1999، في جزيرة إيمرالي في بحر مرمرة، وممنوعة عنه الزيارات أو المكالمات الهاتفية منذ آخر لقاء جمَعه إلى أخيه محمد، في 25 آذار 2021. وفي هذا الإطار، يرى سعاد بوزكوش، في صحيفة «يني أوزغور بوليتيكا» الصادرة بالكردية والمؤيّدة لأوجالان، أن «الدولة أرادت من وراء اعتقال ينارداغ، أن تبدأ حملةً لاستعادة البلديات التي خسرتها، ولا سيما إسطنبول وأنقرة، في الانتخابات البلدية المقبلة، والمرتقبة في نهاية آذار 2024». أمّا البلديات التي كان يرأسها منتمون إلى «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، فقد استعادتها السلطة سابقاً من طريق إقالة رؤسائها وتعيين آخرين موالين لها ليحلّوا محلّهم. ووفق بوزكوش، فإنه «إذا سارت الأمور كما هو مخطّط لها من جانب حزب العدالة والتنمية، فستكون نتائج الانتخابات البلدية معروفة من الآن. وهذا ترجمة لشعار إردوغان: "حزب العمال الكردستاني عدوّ. ومَن لا يرى فيه عدوّاً فهو عدوّ". وفي ذلك يريد إردوغان أن يَحرف الأنظار عن المطالبات بإطلاق سراح أوجالان إلى الحديث عن تحسين ظروف اعتقاله». ومن جهته، يعتقد الكاتب ميتيه قاينار، في صحيفة «غازيتيه دوار»، أن اعتقال ينارداغ يمثّل «محاولة لإسكات الصحافة الحرّة المعارضة»، فيما يوافقه الرأي المفكّر المعروف، إيمره كونغار، في «جمهورييات»، حيث يعتبر أن الهدف ليس إلّا «تخويف الناخبين وكتم أفواه المدافعين عن الديموقراطية، وينارداغ بالتالي ضحية الانتخابات البلدية».أمّا الحدث الثاني، فهو مرور ذكرى 30 عاماً على مجزرة فندق ماديماك في مدينة سيواس في الثاني من تموز 1993، حيث كانت تقام فعاليات ثقافية حول أحد رموز الفكر العلوي، بير سلطان عبدال، رجل الدين والشاعر الذي عاش في القرن السادس عشر وأُعدم على أيدي السلطات العثمانية. وشارك، في تلك الفعالية، عدد كبير من الشعراء والكتّاب والفنّانين العلوييين واليساريين، وفي مقدّمهم الروائي التركي العالمي عزيز نيسين، والناقد عاصم بازرجي، وآخرون. وأُقيمت الفعالية نهار يوم جمعة، حين اندفعت مجموعة من المتدينين، بعد صلاة الجمعة، إلى الفندق، وأضرمت النيران باسم عزيز نيسين الذي اتّهمته بالإلحاد، ووصفته بأنه «شيطان»، متوعدةً بأن تكون سيواس «مقبرة له ولكل العلمانيين»، لأن «تركيا مسلمة وستبقى مسلمة». وبينما صرخ هؤلاء: «اللهم هذه نارك أَدخلها إلى الداخل لكي تحرق الفندق تماماً»، فهم أشعلوا النار بالفندق، حتى بدأ الحاضرون يتدافعون إلى الهروب، لكن الأمر انتهى إلى مقتل 33 شخصاً، من بينهم الناقد عاصم بازرجي، فيما نجا نيسين. وما بدا مستهجناً، أن رئيسة الحكومة آنذاك، طانسو تشيللر، شكرت الله لأن «أحداً خارج الفندق لم يُصب بأذى»، فيما وصف رئيس الجمهورية، سليمان ديميريل، الحادثة بـ«المنفردة»، واتّهم وزير الداخلية في حينه، محمد غازي أوغلو، نيسين، بـ«التحريض على الفتنة، فكانت ردّة فعل الجماهير» تلك. ووصف نجم الدين إربكان، بدوره، الحادثة بأنها نتيجة «التحريض»، بينما اتّهم نيسين الدولة بـ«تدبير المجزرة».
مرّت ذكرى 30 عاماً على مجزرة فندق ماديماك في مدينة سيواس في الثاني من تموز عام 1993

وبينما أصبح العديد من المدافعين عن الهجوم، الذي لعلّ أخطر ما فيه أنه نُظر إليه بوصفه استهدافاً من السُّنّة للعلويين، نواباً ووزراء، رأى البعض أنه لولا تغطية الدولة للمرتكبين، لما كان للمجزرة أن تحدث. وبالعودة إلى تلك الواقعة، ترى الكاتبة زينب أورال، في «جمهورييات»، أن «الهجوم استهدف العلمانية وحقّ الإنسان في الحياة وحرية التعبير»، مستغربةً إطلاق المهاجمين شعارات من مثل «سيواس كانت بداية الجمهورية، وفيها ستكون مقبرتها»، مضيفةً أن «مجزرة سيواس لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة... ربّما سيأتي يوم نخرج فيه من الظلمة إلى النور من دون أن نحترق».
وبالنسبة إلى الحدث الثالث، فقد شكّلت «المسألة الكردية» مادته، لكنه يتّصل بالصراع بين التيارَين الديني والعلماني. ففي الـ13 من شباط 1925، أَطلق الشيخ سعيد بوران المعروف بـ«الكردي»، ثورة ضدّ السلطة الحاكمة اعتُبرت الأكبر والأشهر في تاريخ تركيا الحديث، قبل ظهور «حزب العمال الكردستاني» في أواخر سبعينيات القرن العشرين. وقد اتّسمت ثورة الشيخ سعيد بنزعتَين: قوميّة دفاعاً عن الاضطهاد الذي كان يتعرّض له الأكراد، ودينية احتجاجاً على إلغاء الخلافة والتشريعات المعادية للدين. ولكن الدولة نجحت في إخمادها في منتصف نيسان، واعتقال الشيخ سعيد ورفاقه، وإعدامهم. وتلت إعدام الشيخ إجراءات كثيرة استهدفت الوجود الكردي في تركيا، وضيّقت على النشاطات الدينية. وفي الذكرى الـ98 لإعدامه، تجدَّد السجال حول الشيخ سعيد بين مَن رأى أنه خائن لمبادئ العلمانية والثورة «الأتاتوركية»، ومَن قال إنه «بطل قومي للأكراد»، أو «بطل ديني واجه حملة استئصال الدين من الدولة والمجتمع».
والمفارقة، أن «حزب العدالة والتنمية» دخل، اليوم، على خطّ ذكرى الواقعة، من بوّابة القول إن الشيخ سعيد ليس متمرداً ولا عاصياً، بل شهيد في وجه القمع «الأتاتوركي» دفاعاً عن الشريعة. وفي هذا الإطار، قال عضو اللجنة المركزية في الحزب، علاء الدين برلاق، إنه «في الذكرى السنوية لشهادتهم، نتذكّر برحمة وامتنان الشهيد الشيخ سعيد ورفاقه الأبطال». وشكّل ذلك التصريح بداية «حرب» على مواقع التواصل الاجتماعي، ندّد فيها البعض بوصف الشيخ بالشهيد، متسائلين: «كيف يمكن وصف من اعتدى على الجيش التركي البطل بالشهيد؟»، فيما رأى آخرون أن «ما يمثّله حزب العمال الكردستاني اليوم، هو ما كان يمثّله الشيخ سعيد. إنها الخيانة بعينها. والدولة قامت حينها بما يجب القيام به». ويقول الكاتب المعارض، إسماعيل صايماز، مستغرباً: «لقد وصف حزب العدالة الشيخ سعيد بالشهيد ورفاقه بالشهداء الأبطال. واليوم يصف أوجالان بأنه محكوم سياسي ويلقي بالصحافيين المعارضين في السجن. هذه هي ديموقراطية حزب العدالة والتنمية». أما «حزب الدعوى الحرّة» الكردي الديني، والذي دخل شريكاً لـ«حزب العدالة والتنمية» في «تحالف الجمهور»، وله أربعة نواب في البرلمان، فقد أصدر بيانات مختلفة في ذكرى إعدام الشيخ سعيد بعدما أدرج ثورته في إطار برنامجه الانتخابي، ووصفه بالشهيد، ودان ممارسات أتاتورك ضدّ علماء الدين الأكراد حينها، مطالباً الدولة الآن بالاعتذار رسمياً عن تلك الممارسات.