ليست الاحتجاجات التي شهدتها إسرائيل، أمس، ضدّ «الانقلاب القضائي» و«تقويض الديموقراطية» بالجديدة، غير أنها تُعدّ الأولى من نوعها منذ أيار الماضي، لناحية دعوة قادة الاحتجاج، الجمهور الإسرائيلي، إلى شلّ الكيان في يوم عمل وليس في يوم عطلة. واحتدمت الاحتجاجات المستمرّة منذ تولّي حكومة بنيامين نتنياهو السلطة نهاية العام الفائت، هذه المرّة، بعدما صوّتت الهيئة العامة لـ«الكنيست»، فجر أمس، بكامل أعضاء الائتلاف الحاكم (64 عضواً)، لصالح مشروع قانون «إلغاء ذريعة عدم المعقولية»، والذي من شأنه أن يحدّ من صلاحيات المحكمة العليا - أعلى هيئة قضائية في إسرائيل- ويمنعها من إلغاء قرارات تتّخذها الحكومة أو يمرّرها «الكنيست». وعلى خلفية تمرير المشروع بالقراءة الأولى، وانعقاد لجنة الدستور والقانون، برئاسة سيمحا روتمان، أمس، لمناقشته وتحضيره بغية التصويت عليه بالقراءتين الثانية والثالثة لكي يصبح نافذاً مع نهاية الشهر الحالي، اجتاحت التظاهرات كل المستعمرات الإسرائيلية والمُدن الفلسطينية المحتلة، وخصوصاً حيفا والقدس وتل أبيب وهرتسليا وبئر السبع، إضافة إلى مطار «بن غوريون» في مدينة اللد، فيما شهدت الشوارع الرئيسة والسريعة ومحوّلات الطرق عمليات إغلاق تسبّبت بتعطيل حركة السيّر، واضطرت وحدات الشرطة إلى التدخّل لفض المتظاهرين وفتح الطرق، ما أدى إلى إصابة عدد من المحتجين بينهم صحافيون، واعتقال العشرات.وعلى وقع التظاهرات العارمة، أتى تحذير رئيس النقابة العمّالية الإسرائيلية («الهستدروت»)، أرنون بار ديفيد، لنتنياهو، من أن تجاوز حكومة الأخير الخطّ الأحمر، والمتمثّل في لجنة تعيين القضاة، يعني عملياً شلّ إسرائيل. وطالب بار ديفيد، نتنياهو، بوقف ما وصفه بـ«الفوضى الجنونية الحاصلة في المجتمع الإسرائيلي وبأسرع ما يمكن»، قبل أن تأتي ساعة الحسم، عندما «ستستخدم الهستدروت قوتها». ويُعدّ هذا التهديد واحدةً من أهمّ البطاقات الحمراء التي يملكها الشارع الإسرائيلي بوجه السلطة؛ إذ إن النقابة العمّالية سبق أن شلّت الكيان في يوم «مقاومة الديكتاتورية» سابقاً، وأجبرت نتنياهو على تجميد خطّة «الانقلاب القضائي» والبدء بمفاوضات مع المعارضة برعاية الرئيس الإسرائيلي، يتسحاق هرتسوغ، قبل الإعلان عن تعثّرها أخيراً ووقفها.
بناءً على ما تقدّم، «استشعرت أوساط الليكود الحاكم خشية من تبعات الاحتجاجات العارمة»، فتعالت أصوات بعض نواب الأخير بالمطالبة بـ«تليين» نص قانون «إلغاء ذريعة عدم المعقوليّة»، بحيث يُتاح لـ«العليا» إلغاء قرارات رئيس «الكنيست» والسلطات المحلية ورؤساء البلديات، مع الإبقاء على عدم قدرتها على إلغاء قرارات، ومن ضمنها تعيينات، تَصدر عن الحكومة ورئيسها ووزرائها. وطبقاً لما كشفه موقع «واينت» التابع لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، فقد طالب أعضاء في «الليكود» بأن يكون نص القانون على النحو الآتي: «الذي يملك صلاحية الحكم القضائي بموجب القانون، ومن ضمن ذلك المحكمة العليا كمحكمة العدل العليا، لا ينظر ولا يصدر أمراً ضدّ الحكومة، رئيس الحكومة، أحد الوزراء بشأن معقولية قرار (اتخذه المذكورون)». وتعليقاً على ما تَقدّم، اعتبر رئيس لجنة القانون والدستور، روتمان، أن هذا النص مجرد «خديعة إعلامية»، وهو ما يدلّ عليه في الواقع تصويت كامل أعضاء الائتلاف لصالح القانون بصيغته الأصلية.
استشعرت أوساط «الليكود» الحاكم خشية من تبعات الاحتجاجات العارمة


من جهته، وصف وزير التربية والتعليم الإسرائيلي، يوآف كيش، المتظاهرين ضدّ «الانقلاب القضائي» بـ«الإرهابيين»، قائلاً في مقابلة مع «إذاعة الجيش»: «صحيح... هذه ليست عمليات مسلحة إرهابية، لكنها تعرقل مجرى حياة ملايين الأشخاص ويحظر السماح بذلك»، وهو ما اعتبرته حركة الاحتجاج المركزية في «كابلان» في تل أبيب «تحريضاً على قتل المتظاهرين»، داعيةً المستشارة القضائية، غالي بهاراف- ميارا، إلى «فتح تحقيق فوري ضدّ الوزير الخطير». أمّا وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، فقد وجد في تظاهرات الأمس، فرصة ليلتفّ من خلالها على المفتش العام لجهاز الشرطة، يعكوف (كوبي) شبتاي، وكذلك على المحكمة العليا التي سبق أن حظّرت عليه التدخّل في عمل الجهاز؛ إذ هاتف بن غفير قائد لواء المركز في الشرطة، آفي بيتون، «مستوضحاً» عن «التمييز في إنفاذ القانون بين متظاهري اليمين ومتظاهري اليسار، ولماذا أشهر شرطي مسدس صعقات كهربائية مقابل متظاهر يميني، فيما لا يحدث أمر كهذا ضد الآلاف من متظاهري اليسار». وطبقاً لبيان صدر عن مكتب بن غفير، فإن «قائد اللواء أبلغ الوزير بأنه سيوعز بخطوات تأديبية ضدّ الشرطي مُشهر المُسدس الكهربائي»، علماً أن الأخير هو عنصر في دائرة السير. أيضاً، طالب بن غفير المستشارة القضائية للحكومة بـ«التوقف عن وضع العصي في عمليات إنفاذ القانون ودعم المشاغبين»، وذلك في أعقاب سماح بهاراف- ميارا للمحتجين بالتظاهر في قلب «مطار بن غوريون» باعتباره «حيّزاً عاماً».
التبعات الخطيرة للتصويت على القانون، لم تقتصر على تعمّق الانشقاق العمودي الحاصل في المجتمع الإسرائيلي، ولا على مضاعفة معاناة الاقتصاد الذي يشهد انحداراً منذ مطلع العام، بل طاولت أيضاً الجيش الإسرائيلي، وخصوصاً الاحتياط الذي هدّد المئات فيه برفض الخدمة العسكرية إذا ما استمرت الحكومة في دفع مخططها. وفي هذا الإطار، انضمّ ضباط وجنود الاحتياط في منظومة «السايبر» الهجومية الإسرائيلية الرافضون لتأدية الخدمة العسكرية إلى زملائهم، ليصل مجمل عدد الرافضين في هذه المنظومة وحدَها إلى 300. واعتبر هؤلاء في عريضة وقّعوها، ونشرها «واينت» أمس، أن «حكومة نتنياهو أثبتت أنها تتجه نحو تحطيم دولة إسرائيل»، وذلك بعد «تمرير قانون إلغاء ذريعة عدم المعقولية الذي يُعدّ الحجر الأول في جعل دولة إسرائيل فاسدة، ظلامية وضعيفة». وأضاف هؤلاء أنه «في الأيام الأخيرة نسمع أصوات زملائنا الذين يؤدون الخدمة العسكرية، بأن الثقة بقدرة الحكومة على توجيه أعمال سايبر هجومية تصدّعت بشكل عميق. وهذا خطر واضح وداهم»، متابعين «(أنّنا) لن نطوّر قدرات من أجل نظام مجرم، ولن نساعد في تأهيل جيل المستقبل للسايبر الهجومي». كذلك، اجتمع، مساء أمس، 400 طيّار يخدمون في قوات الاحتياط في سلاح الجو، في مكاتب لإحدى الشركات الخاصة في «بني باراك»، حيث بحثوا في خطوات احتجاجية سينفذونها ضد الحكومة. كما استمعوا إلى خبراء ومختصين في مجال القانون حول آثار الخطة الحكومية على الجيش. وكان طيارون من أسراب مختلفة قد هدّدوا، في وقت سابق، بالتوقف عن الخدمة العسكرية، لكنهم عادوا عن تهديدهم عقب تراجع نتنياهو عن إقالة وزير الأمن، يوآف غالانت.
وفي تعليقه على ذلك، اعتبر غالانت أن «الدعوات إلى رفض الخدمة العسكرية تهدد وحدة الصف في الجيش وتمثل مكافأة لأعدائنا»، مشدداً على أهمية بقاء الجيش بعيداً من السياسة، فيما لفتت «القناة 12» الإسرائيلية إلى أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تُقدّر أن «غالانت قد يضغط على نتنياهو لوقف التشريعات إذا شعر أن رفض الخدمة العسكرية قد يؤثر على كفاءة الجيش وقدرته على شن عمليات».
من جهته، ردّ زعيم «المعسكر الوطني» ، ووزير الأمن السابق، بني غانتس، على غالانت قائلاً: «بالرغم من أن على الجيش البقاء خارجاً، غالانت تحديداً يعرف أن الجيش هو جيش الشعب، وعندما يتمزق الشعب، أيضاً يتمزق الجيش وكذلك يتضرر الأمن» ، مضيفاً أن «الجيش علّمنا الشجاعة. والشجاعة هي ما يفتقر إليه أعضاء الليكود الذين يدركون أن المخطط لا يضر بالديموقراطية الإسرائيلية فحسب، وإنما بالأمن أيضاً، وبمكانة إسرائيل السياسية، والمناعة الاقتصادية، والتضامن والتكافل الاجتماعييْن». وأتى ذلك بعدما اشتدت حدّة التظاهرات مساءً؛ إذ أغلق المحتجون الشارع السريع «رقم 6» الواصل بين الشمال والجنوب، فيما توجه مئات المحتجين الذين تظاهروا قبالة مبنى السفارة الأميركية في تل أبيب إلى شارع «كابلان» في المدينة التي تُعد مركزاً للحركة الاحتجاجية ضد «الانقلاب القضائي». كما تظاهر الآلاف قبالة «الكنيست»، وأغلقوا طرقاً في محيط المباني الحكومية. ووقعت أعنف التظاهرات في مطار «بن غوريون»؛ إذ أغلق المحتجون «تيرمنال 3» الرئيس وتسببوا بتأخير الرحلات الجوية، ما دفع الشرطة التي استقدمت أكثر من ألف عنصرٍ إلى فضّهم بالقوة والعنف.
إزاء ذلك، دعا المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، السلطات الإسرائيلية إلى «حماية واحترام حق التظاهر». وحث حكومة نتنياهو على التوصل إلى تفاهمات واسعة مع المعارضة على أي تعديلات تتصل بالنظام القضائي. وشدّد البيت الأبيض على أن التعديلات «يجب أن تحافظ على استقلالية جهاز القضاء»، لافتاً إلى أن الإدارة الأميركية «تواصل التشجيع على اتباع نهج قائم على الإجماع للإصلاح القضائي».