صدّق «الكنيست» الإسرائيلي، فجر أمس، على قانون يلغي مبدأ «المعقولية»، الذي كان يتيح للقضاء الإسرائيلي إبطال قوانين وقرارات حكومية يراها «غير معقولة»، وهو ما أعاد المحتجّين إلى إشغال الشارع بأعداد مرشّحة للتعاظم، في ظلّ نيّة الائتلاف الحكومي متابعة المصادقة على القانون بالتصويت النهائي عليه قبل نهاية الشهر الجاري. بناءً عليه، تتزاحم في واجهة المشهد جملة أسئلة على رأسها ما يلي: هل عاد الانقسام الإسرائيلي لينذر بالأسوأ بعدما بدا أنه خفت قليلاً؟ وهل انتفى سبب التراجع الأول عن «الإصلاحات»، كي تتمكّن الحكومة من استئنافها؟ وما هو موقع «ذريعة المعقولية» من «الإصلاحات القضائية» الهادفة إلى تهميش القضاء؟ إزاء ذلك، تمكن الإشارة إلى الآتي:أوّلاً: مبدأ المعقولية هو مبدأ غير مكتوب، ولم يرِد في نصوص قانونية، بل هو نتيجة تطوّر فقهي، جلّه مبنيّ على أحكام واجتهادات القضاء البريطاني الذي أعطى من خلال هذا المبدأ القضاء الإداري القدرة على التدخل في قرارات تنفيذية صادرة عن هياكل ومؤسسات حكومية، ومن ثمّ إبطال ما لم يتوافق في جوهره مع «المعقولية». ومع بداية الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت المحكمة الإسرائيلية العليا بالعمل وفقاً لـ«المعقولية»، مع التوسع فيها بين الحين والآخر، إلى الحدّ الذي باتت معه هذه الذريعة تشكّل هاجساً بالنسبة إلى الحكومات الإسرائيلية ووزرائها، وأيضاً للأجسام والهياكل المؤسّساتية العامة على اختلافها. ويرى معارضو «الإصلاحات»، أن انتزاع تلك الصلاحية من القضاء، من شأنه أن يحدّ من صلاحياته ويضعف مكانته، ويمكّن الحكومة، كما «الكنيست»، من سنّ قوانين تتماشى أكثر مع سياساتهما، ومنها الفاشي والمتطرّف ليس فقط في مواجهة غير اليهود، بل ضدّ اليهود أنفسهم، على رغم كون هذه القوانين «غير معقولة».
مع ذلك، ليس مبدأ المعقولية إلّا بنداً واحداً، وربّما يكون هامشياً نسبياً، ضمن سلّة «القوانين الإصلاحية» التي تتطلّع حكومة بنيامين نتنياهو إلى إقرارها في «الكنيست»، والتي من شأنها إضعاف القضاء الإسرائيلي، علماً أن هذا الأخير يملك الأدوات اللازمة لصدّ هكذا قوانين، عبر إلغائها أو تجميدها. وعليه، سيكون من نتائج المضيّ في المسار الحكومي، تعميق انقسام الإسرائيليين بين رافض لأحكام القضاء وممتنع عن تنفيذها، وبين داعٍ إلى الامتثال لها، وهو ما قد يستجلب تبعات على المؤسّسات ومراكز الحكم، بعدما اقتصر تأثيره إلى الآن على الشارع. إذ إن إقدام القضاء على إبطال «قانون المعقولية»، باعتباره مخالفاً للمعقولية نفسها، سيؤدّي إلى تسعير الاحتجاجات، ليس فقط على ضفة الليبراليين الذين يشغلون الشارع، باعتبار أن «هذا المبدأ أداة أساسية لحماية الجمهور من قرارات الحكومة التعسفية أو الفاسدة»، بل أيضاً لدى اليمينَين المتطرّف والفاشي، اللذَين سيسعيان إلى الدفاع عن القانون الإلغائي الجديد، و«منع القضاء من التدخل في قرارات حكومة منتخبة».
«قانون المعقولية» ليس هو «الإصلاح القضائي» الوحيد الذي تريد حكومة نتنياهو فرضه عبر «الكنيست»


أمّا إن امتثلت المحكمة للقانون، ومنعت نفسها من استخدام «المعقولية» لإبطاله، تظلّ لديها العديد من الأدوات الأخرى التي باتت عرفاً تستند إليها للمصادقة على القوانين أو إبطالها، من مثل: مبدأ التناسب وحسن النية؛ وسوء استخدام السلطة؛ وتضارب المصالح... وغيرها. والجدير ذكره، هنا، أنه من بين الأحكام التي استخدمت فيها المحكمة العليا مبدأ المعقولية، هو طلبها في متن حكم خاص جاء على خلفية التماسٍ، عام 1993، من رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك إسحاق رابين، إقالة أرييه درعي من منصبه الوزاري، على خلفية تقديم لائحة اتهام ضدّ الأخير، جعلت «من غير المعقول أن يكون الشخص الذي تمّ تقديم لائحة اتهام ضدّه، مستمّراً في عمله وزيراً في الحكومة».
ثانياً: قانون «إلغاء ذريعة المعقولية»، مرّ بالتصويت الأول في «الكنيست»، فيما لا يزال ينتظره تصويتان آخران، ما يعني أن تَعرقله في «لجنة الدستور والقانون»، أو تأخّر إعداده للقراءتَين الثانية والثالثة قبل نهاية الشهر الجاري، سيؤدّي إلى تأجيل التصويتَين الثاني والثالث عليه إلى ما بعد العطلة الصيفية، التي تبدأ أول الشهر المقبل وتستمرّ لشهرين متتاليين. ومع ذلك، مثّلت خطوة الائتلاف تحويل القانون بعد التصويت عليه مباشرة إلى لجنة الدستور لإعداده للتصويت اللاحق، خطوة استفزازية، لأنها جاءت سريعة جدّاً، ولم تترك هامشاً لامتصاص الصدمة.
ثالثاً: «قانون المعقولية» ليس هو «الإصلاح القضائي» الوحيد الذي تريد حكومة نتنياهو فرضه عبر «الكنيست»، بل قد يكون أسهل الإصلاحات وأقلّها إشكالية، بالنظر إلى أن إلغاء هذه الذريعة أو الحدّ من التوسع في تفسيرها يلقى قبولاً لدى الكثير من الخبراء وفقهاء القانون في إسرائيل، ومن بينهم حتى من يقود الاحتجاجات ضدّ «الانقلاب». ويستبطن اختيار نتنياهو هذا، دلالتَين رئيستَين: أولاهما أنه لم «يكسر الجرّة» مع المعارضة، وهو يدفع بها نحو الزاوية - من دون الإضرار بمنظومة الحكم -، بهدف حشرها والضغط عليها لتلبية مطالبه الشخصية، بما يتيح إبرام تسويات تنهي الأزمة أو ترحّلها إلى تواريخ بعيدة جدّاً. وأمّا ثانيتهما، فهو اعتقاده أن المعارضة لـ«الإصلاحات القضائية» ليس مردّها حصراً الخشية من إضعاف القضاء، بل تختلط فيها الكثير من المصالح والعداوات السياسية والشخصية، والتي تدفع حتى بعض من كانوا في السابق من دعاة إلغاء بنود في المنظومة القضائية، إلى المطالبة بإبقائها الآن.
في المحصلة، ليس الخلاف على «قانون المعقولية» إلّا الواجهة لشروخ سياسية عميقة، واختلاف في الرؤى حول أدوات الحكم والسلطات، وانقسام عميق بين «المجتمعات» الإسرائيلية، هو الذي يجب أن يحظى بمتابعة ودراسة مستفيضتَين.