ليس لدى الصين، على غرار معظم متابعي الأحداث الدائرة في أوكرانيا، تصوّر واضح عن أيّ نهاية محتملة لهذه الحرب. إلا أنّها باتت تضع نصب عينيها سيناريوَين رئيسَين لتلك النهاية: أوّلهما - وأكثرهما إثارة للقلق -، هو أن الطرفين سيصلان إلى حالة من «الجمود الدموي»، لا يقدر أيّ منهما على خرقها؛ وثانيهما، أن روسيا ستنجح، في نهاية المطاف، في استنزاف أعدائها، وانتزاع المكاسب منهم. ومهما يكن، يبقى المؤكد لدى بكين، التي لا تزال تبحث عن صيغة ملائمة للسلام، شريطة ألّا يكون «على المزاج» الغربي، أن النتيجة الأبرز لهذا الصراع، هي تسريع «زوال» الهيمنة الأحادية في العالم.في مقابل استمرار الولايات المتحدة في «تسعير» الحرب التي لا تفتأ تستنزف جميع الأطراف، بمن فيهم المعسكر الأوروبي بأكمله، تصرّ الصين على إيجاد صيغة معيّنة للدفع إلى التفاوض. إلا أنّ بكين تبدو «متيقّظة» إلى خلفيات الدعوات الغربية الأخيرة لها للتوسّط بين موسكو وكييف، بعدما كانت مبادرتها في هذا الإطار قد لقيت رفضاً «واستخفافاً» من واشنطن وحلفائها في السابق - نقلت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، في أيار، أن كبار المسؤولين الأميركيين يبحثون تعاوناً محتملاً مع الصين لوضع حدّ للحرب -؛ إذ يعبّر الموقف الرسمي بوضوح عن أن الصين لن تمتثل لأيّ «سيناريو» ترسمه الولايات المتحدة عن الدور الصيني المحتمل في الوساطة، والذي لا يزال يطمع الأميركيون في أن يصبّ في مصلحة «احتواء روسيا وإضعافها وتفكيكها»، وفق ما تورد صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية المملوكة للدولة.
وفي الصورة الأعمّ، تعتقد بكين أن الحرب الأوكرانية تحوّلت إلى «أكبر فشل استراتيحي لواشنطن»، وفق ما تورد الصحيفة نفسها، عازيةً ذلك إلى أن «النخبة الأميركية أساءت تقدير الجوانب العسكرية والاقتصادية والديبلوماسية للصراع»، ما أدى إلى تسريع تزعزع الهيمنة الأميركية، والذي بات «واضحاً» للجميع، بعدما قامت هذه الهيمنة، تاريخياً، على «دفع حلفاء الولايات المتحدة» إلى خوض حروب مدمّرة.

الحليف «الخفي»
بينما تصبّ الولايات المتحدة والدول الحليفة لها في «الناتو» اهتمامها على منع الصين من إرسال أسلحة «قاتلة» إلى روسيا، يبدو أن «الدعم الحيوي» الآخر الذي تقدّمه بكين، بشكل مباشر أو غير مباشر، لموسكو، قد أفلت من «الرقابة» الغربية، التي أسهم تركيزها على المساعدة «الفتاكة» حصراً، في منع الغرب من وقف، أو حتى تصنيف أو إدانة، بقية أنواع الدعم. وفي هذا الإطار، يؤكد تقرير لـ«المجلس الأطلسي» أن «توفير بكين المعدات والمواد الضرورية للاستخدامات العسكرية، مثل مركبات النقل وأشباه الموصلات، بشكل مباشر، يمكّن القوات العسكرية الروسية من مواصلة هجومها»، متحدّثاً عن أدلّة تُظهر أن «جمهورية الصين الشعبية تقدّم بالفعل دعماً حاسماً لحرب روسيا، في مواجهة الدعم الذي تقدّمه واشنطن وحلف شمال الأطلسي لأوكرانيا».
في الواقع، وعلى الرغم من تأكيد الصين المستمرّ التزامها «الحياد»، ومحاولتها عدم الإضرار قدر الإمكان بعلاقاتها مع الكثير من الدول الأوروبية، فقد عزّزت بكين، التي ترى أن الممارسات الغربية باتت تمثّل تهديداً «وجودياً» لموسكو، تجارة السلع الصينية مع هذه الأخيرة بشكل ملحوظ، حتى بلغت، في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، أكثر من الضعف، مقارنة بمستويات عام 2020. ويكشف التقرير نفسه أنه خلال الفترة الماضية، كان عدد قياسي من الشاحنات القادمة من الصين يدخل إلى روسيا، مقابل خروج كميات كبيرة من النفط في الاتجاه المعاكس، لتصل الواردات الصينية من النفط الخام الروسي إلى مستوى قياسي في آذار. وبحسب تقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية الشهر الجاري، فقد باتت الشحنات النفطية من روسيا تمثّل، حالياً، 14 في المئة من الإمدادات الصينية، ارتفاعاً من 8.8 في المئة قبل الحرب، وفقاً لمزوّد بيانات السلع الأساسية «Kpler»، حتى إن روسيا أصبحت منافساً شرساً للسعودية، التي تراجعت حصتها من تلك السوق إلى 14.5 في المئة ثلاثة أشهر حتى أيار، وسط توقّعات بأن تتجاوزها موسكو قريباً. ولا يمكن حصر أسباب ذلك الارتفاع بأن المصافي الصينية تسعى إلى الاستفادة من الأسعار المواتية بسبب العقوبات الغربية والحدّ الأقصى لأسعار الخام الروسي؛ إذ إن مشتريات بكين تحمل «طابعاً سياسياً وأهمية استراتيجية» من نوع آخر، طبقاً للتقرير نفسه.
لا تزال الصين وروسيا تعتقدان، على الأرجح، أن الجبهة الغربية الموحّدة حول أوكرانيا ستنهار عاجلاً أو آجلاً


على خطّ موازٍ، تعتمد روسيا على وارداتها من الصين، بما في ذلك المركبات، للتكيّف مع القيود اللوجستية الشديدة على الشاحنات الروسية، والتي فُرضت قبل الحرب وخلالها. ومن المرجّح، هنا، أن الصادرات الصينية من الشاحنات فائقة الثقل، والتي تُعتبر حيوية لنقل المعدّات العسكرية الثقيلة، تقدّم مساعدة «حاسمة وفي الوقت المناسب» للجيش الروسي، بما يمكّنه من «سدّ الثغرات في لوجستياته العسكرية». وارتفعت صادرات الصين إلى روسيا من هذه الشاحنات، في كانون الأول 2022، بأكثر من أحد عشر ضعفاً عن مستويات العام السابق. ونظراً إلى أن نقص الشاحنات يؤدي غالباً إلى التضخم، فقد ساعدت الصادرات الصينية تلك، أيضاً، في إبقاء الأسعار المحلّية تحت السيطرة، «ما ساهم بدوره في صمود اقتصاد الحرب الروسي».
بالإضافة إلى ما تَقدّم، تُعتبر أشباه الموصلات ضرورية لتصنيع الأنظمة العسكرية الحديثة، بما في ذلك استبدال المخزونات الروسية من الصواريخ المستخدمة في الحرب. وفي هذا المجال تحديداً، أدّت بكين دوراً أساسياً في تعديل أنماط تجارة أشباه الموصلات، للتخفيف من نقص الرقائق الدقيقة في روسيا خلال الحرب. ووفقاً لبيانات الجمارك الصينية، فقد بلغت قيمة شحنات الصين من الدوائر الإلكترونية المتكاملة إلى روسيا في 2022، 179 مليون دولار، أي أكثر من ضعف صادراتها لـ 2021، فيما من المرجّح أن هذه الأرقام لا تكشف الواقع الفعلي لتلك التجارة، إذ زادت الصين، مثلاً، من صادراتها من الدوائر المتكاملة ممّا يقرب الـ 73 مليون دولار في 2021 إلى نحو 125 مليون دولار في 2022، إلى تركيا، التي زادت بدورها، صادراتها من التكنولوجيا نفسها إلى روسيا، بأكثر من 50 في المئة، بين 2021 و 2022، ما يعني أن بكين تزوّد موسكو بها، عبر أطراف ثالثة، أو حتى مباشرة، إنّما بكمية أكبر ممّا تكشفه البيانات الرسمية.
وتعقيباً على اللقاء الذي جمع بين الرئيس الصيني، تشي جين بينغ، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في آذار الماضي، أوردت مجلة «فورين أفيرز» الأميركية تقريراً جاء فيه أن «إلقاء نظرة فاحصة على أكثر من نصف المسؤولين في فريق بوتين المشاركين في الجولة الأولى من المحادثات الرسمية مع شي، يُظهر أن هؤلاء هم أنفسهم المشاركون بشكل مباشر في برامج الأسلحة والفضاء الروسية»، مشيرةً إلى أن موسكو وبكين تعمدان، خلف الكواليس، إلى تعميق تعاونهما الدفاعي، وأن المسؤولين الروس والصينيين «أبرموا عدداً من الاتفاقات الدفاعية» التي لم يتحدثوا عنها علناً.

إعادة التوحيد
مع استمرار الصراع، تأمل الأطراف المنافسة لبكين أن تكون الأخيرة قد «أعادت حساباتها» في ما يتعلّق بجزيرة تايوان، بعدما «تنبّهت» إلى الصعوبات غير المتوقّعة التي قد تواجه جيش دولة ما على أرض المعركة، والخسائر الكبيرة التي قد تترتّب على بدء أيّ حرب. إلّا أنه ما من مؤشّر إلى الآن إلى أن الصين ستقدّم أيّ تنازل، ولو بسيط، في هذا الملفّ. وفي السياق، تنقل صحيفة «وول ستريت جورنال» عن كوي تيانكاي، السفير الصيني السابق لدى واشنطن ونائب وزير الخارجية: «بالطبع يجب أن تتوقف الحرب في أوكرانيا في أسرع وقت ممكن، لكن مهما حدث هناك، فهو لا ينبغي أن يعيق جهود إعادة التوحيد الخاصة بنا».
وحتى المسؤولون الأميركيون والغربيون يعتبرون، وفق ما نقلته الصحيفة نفسها عن بعضهم، أن من المبكر جداً الاعتقاد بأن بكين توصّلت إلى خلاصات بأنه لا يجب «غزو تايوان»، نظراً إلى أن الحرب في أوكرانيا لم تنتهِ بعد، وأن الهزيمة الروسية - ولو حاولت الدعاية الغربية إثبات عكس ذلك - ليست مسألةً مفروغاً منها». ويعترف المسؤولون بأنه على الرغم من العدد الكبير من العقوبات الغربية، «فالاقتصاد الروسي لم ينهَر، ونظام بوتين لم يواجه أيّ تحدّيات داخلية خطيرة، حتى مع ارتفاع الخسائر الروسية»، فيما لا تزال الصين وروسيا تعتقدان، على الأرجح، أن الجبهة الغربية الموحّدة حول أوكرانيا ستنهار عاجلاً أو آجلاً، وربما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024. إلى جانب ذلك، يسود تشاؤم في أوساط العديد من المراقبين حول نتائج أيّ نزاع محتمل مع الصين حول تايوان، ولا سيما في أعقاب الحرب الأوكرانية، التي استهلكت الكثير من الأسلحة الأميركية، وباتت تهدّد قدرة واشنطن على «كسب» حرب كهذه. من هنا، يمكن فهم إلحاح بعض المسؤولين الأميركيين، ولا سيما أعضاء «الحزب الجمهوري»، على الحدّ من تدفّق الأسلحة إلى كييف، باعتبار أنه «أضعف بشكل كبير القوة العسكرية الأميركية في آسيا»، وجعلها غير مجهّزة لأيّ صراع مستقبلي.