على الرغم من أنه لا يزال يفصل تركيا عن الانتخابات البلدية حوالى الستة أشهر (31 آذار 2024)، غير أن الاستحقاق بدأ عمليّاً منذ لحظة إعلان انتصار الرئيس رجب طيب إردوغان، في انتخابات الـ28 من أيار الماضي، وسيطرة «تحالف الجمهور» المؤلَّف من حزبَي «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية» وبعض الأحزاب الإسلامية الصغيرة، على البرلمان. ولكن، يبدو أن «جرح» خسارة الحزب الحاكم، البلديات الكبرى في أنقرة وإسطنبول ومدن أخرى - والتي سيطر عليها منذ عام 1994 -، لا يزال يؤلِم إردوغان، وهو الذي ظلّ يردِّد مقولته الشهيرة: «مَن يسيطر على إسطنبول، يَحكم كلّ تركيا». من هنا تحديداً، يأتي سعي الرئيس التركي إلى «استعادة» المدينتَين من يد المعارضة و«حزب الشعب الجمهوري» وخصوصاً، حتى إذا ما تمّ له ذلك، أَطبق بالكامل على السلطات الثلاث المنتخَبة: الرئاسية، النيابية، والبلدية. ولأجل هذا، تتّخذ الانتخابات البلدية المقبلة طابع المواجهة، ولا سيما في أنقرة وإسطنبول، على اعتبار أن البلدية الكبرى الثالثة (إزمير) مضمونة الولاء لـ«الشعب الجمهوري». وإذا كان من المبكر الحديث عن أسماء محتملة لمرشّحَي السلطة في المدينتَين المفتاحيتَين، فمن غير المتوقّع أن يُصار مجدّداً إلى طرْح اسم بن علي يلديريم، رئيس «حزب العدالة والتنمية» ورئيس الحكومة السابق، ليواجه مرشّح المعارضة، بعدما خسر أمامه في انتخابات عام 2019. واستناداً إلى ما سبق، يحوز البحث عن اسم «قادر» على هزيمة المرشّح المقابل، اهتماماً عالياً من جانب السلطة.على أن الأخيرة تَدخل الانتخابات البلدية المقبلة وهي مرتاحة إلى وضعها، وخصوصاً بعد الدفع المعنوي الهائل الذي وفّره لها فوزها في الانتخابات النيابية والرئاسية. لكن الوضع على الضفة المعارضة، لا يبدو مثيراً للتفاؤل، وذلك بفعل تبدُّد الآمال التي عُلّقت على احتمال فوز مرشّحها، زعيم «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو، في الانتخابات الرئاسية، حتى بدا كما لو أن الأسباب التي جَمعت أحزابها في «تحالف الأمّة» قد تلاشت، وأنها سائرة في طريقها نحو التفكّك الحتميّ. ومن بين أولى المؤشّرات إلى ذلك، الموقف الذي أعلنه «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، ومفاده أنه سيتقدَّم بمرشّحين خاصّين به إلى الانتخابات البلدية في كلّ المدن، بما فيها إسطنبول وأنقرة، وهو ما يعني أن أيّ مرشّح مشترك للمعارضة لن ينال، مبدئيّاً، الأصوات الكردية الوازنة في هذه المدن، والتي كانت سابقاً من أسباب فوز مرشّحَي المعارضة أكرم إمام أوغلو في إسطنبول، ومنصور ياواش في أنقرة. ومع إعلان بعض الأحزاب الأخرى التي كانت منضوية في إطار الائتلاف المعارِض مواقف مماثلة تعكس «انتهاء» «تحالف الأمّة»، تتّجه الأنظار إلى ما سيقرّره «الشعب الجمهوري»، كونه أولاً أكبر أحزاب المعارضة، ولأن رئيسَي بلديتَي إسطنبول وأنقرة، إمام أوغلو وياواش، ينتميان إليه، ويُعتبران من المدافع الثقيلة فيه، إذا ما تَقرّر طرح اسميهما لخوض معركة الرئاسة بدلاً من كيليتشدار أوغلو، وهو ما يحرّض عليه بوضوح «الحزب الجيّد» بزعامة مرال آقشينير. وممّا يجدر التذكير به، هنا، أنه مع انتهاء الانتخابات الرئاسية إلى هزيمة زعيم «الشعب الجمهوري»، اتّجهت الأنظار إلى ما يمكن أن يحصل داخل الحزب، ولا سيما بعد «الصرخة» التي أطلقها إمام أوغلو بضرورة «التغيير»، والتي تلقّفها الأوّل بتشكيل «نواة صلبة» حوله للاستمرار في موقعه رئيساً للحزب، وقطْع الطريق على إمام أوغلو ليحلّ محلّه.
تتّخذ الانتخابات البلدية المقبلة طابع المواجهة، ولا سيما في أنقرة وإسطنبول


ومع ذلك، أعلن الأخير، يوم الثلاثاء الماضي، أن إسطنبول تمثّل أولوية بالنسبة إليه، وأنه «قادم» إليها من جديد، في افتتاح رسمي لمعركة رئاسة البلدية في هذه المدينة. ويعني قرار إمام أوغلو خوض معركة البلديّات، انسحابه من انتخابات الرئاسة على زعامة الحزب، واحتمال بقاء كيليتشدار أوغلو رئيساً، كما يعني أن رئيس بلدية إسطنبول سيخوض معركة التغيير الحزبية عبر مرشّح آخر قد لا يكون بقوّة الزعيم الحالي، وأن التركيز المقبل سيكون على انتخابات بلدية إسطنبول ومحاولة إبقائها بيد الحزب والمعارضة، لأنها الورقة الوحيدة المتبقّية لتكون رابحة من حيث المبدأ. وتنبغي هنا الإشارة إلى ثلاث عقبات أساسية تقف في طريق إمام أوغلو للفوز برئاسة البلدية: الأولى هي الدعوى المقامة ضدّه، منذ الخريف الماضي، بتهمة تحقير «اللجنة العليا للانتخابات» عام 2019، والتي كان يُتوقّع أن تنفجر في وجهه في حال ترشّح إلى الانتخابات الرئاسية التركية. ولكن كونه لم يترشّح للرئاسة، فإن احتمال انفجار تلك القضيّة في وجهه الآن قائم بقوّة؛ والثانية، هي انقسام المعارضة، وعدم وجود دورة ثانية في هذه الانتخابات التي يفوز فيها مَن يحصل على أعلى نسبة من الأصوات، ولو لم يتجاوز الـ50%؛ والثالثة، هي مدى رضا كيليتشدار أوغلو، في حال التجديد له في رئاسة الحزب، على إمام أوغلو، وخصوصاً إذا ما قرّر الأخير المضيّ في معركة التغيير الحزبية.
وبالعودة إلى مواقف إمام أوغلو، فقد أعلن، يوم الثلاثاء الماضي، أنه سيكون مرشّحاً لرئاسة بلدية إسطنبول، وأن أولويته تكمن في «منْع سرقة المدينة وتدمير بيئتها»، وأنه بذلك «يؤدّي خدمة لكلّ تركيا». وإذ دعا إلى عدم اعتبار ترشيحه موقفاً سياسيّاً ممّا يجري داخل الحزب، فقد اعتبر أن «النجاح في حلّ مشكلات إسطنبول سيكون امتحاناً للنجاح في كيفيّة حلّ مشكلات تركيا»، كما لو أنه أراد القول إن الخطوة التالية لرئاسة بلدية إسطنبول، هي رئاسة الجمهورية، معلناً أن دعوته إلى التغيير داخل «حزب الشعب الجمهوري» لا تزال قائمة، وأن «هناك الكثير ممّن يعرفون تاريخ الحزب ومن ذوي الأكفّ النظيفة، ومن هؤلاء أوزغور أوزيل». واعتُبر تحديد هذا الاسم دعماً من إمام أوغلو لأوزيل ليكون منافساً لكيليتشدار أوغلو على زعامة الحزب، على أن يكون الأوّل مرشّحاً لرئاسيات 2028. ويقول الكاتب عبد القادر سيلفي، المقرّب من إردوغان، في هذا الإطار، إن موقف إمام أوغلو كان مفاجئاً، معتبراً أن الرجل غيّر في الأولويات فقط: رئاسة البلدية أولاً ومن ثم رئاسة الجمهورية، لأنه يدرك جيداً أنه إذا خسر إسطنبول فلن يربح الانتخابات الرئاسية المقبلة، على اعتبار أنه «من دون دعم الأكراد والحزب الجيّد لن يكون في إمكانه الفوز في مواجهة مرشّح حزب العدالة والتنمية».
ووفق الصحافي المعروف، فاتح ألتايلي، فإن مرشّح «حزب العدالة والتنمية» الذي سيواجه إمام أوغلو، هو عادل قره إسماعيل أوغلو، وزير المواصلات والبنى التحتية من عام 2020 إلى حين ترشّحه الربيع الماضي للنيابة عن طرابزون وفوزه فيها. ويضيف ألتايلي أن إردوغان «يحبّ هذا النوع من العاملين في نشاطات الإعمار والمشاريع، فضلاً عن كونه شاباً (54 عاماً)». ويجدر التذكير هنا بأنه لن يكون في مقدور إردوغان الترشّح للرئاسة عام 2028، لأن الدستور الجديد سجّل له ترشيحين عامَي 2018 و2023، علماً أن المعارضة كانت ترى في ترشّحه عام 2023 مخالفة للدستور، لأنه كان ترشّح عام 2014 أيضاً وفاز. ولكن استفتاء التعديلات الدستورية عام 2017 يُسقط كل ما قبله، و«يصفّر» عدد الولايات، ليبدأ «العدّ من جديد». ومع هذا، فإن عدم ترشّح إردوغان لمرّة ثالثة (رابعة) ليس مؤكداً بعد، على اعتبار أن احتمال إجراء تعديلات دستورية جديدة يظلّ قائماً، على الرغم من أن السلطة لا تمتلك ثلاثة أخماس البرلمان الضرورية لتحويل مشروع قانون إلى استفتاء.