لم يكد حزام الانقلابات في أفريقيا يكتمل من السودان شرقاً وحتى غينيا كوناكري غرباً، في نهاية تموز الماضي، حتى شهدت الغابون انقلاباً مباغتاً دلّ على احتمال وقوع انقلابات في دول أخرى ضمن لائحة باتت تتمدّد (وتتراجع) يومياً. وظلّت روسيا حاضرة في صلْب هذه التغييرات السياسية العنيفة في القارة، والتي تزامنت مع مساعي موسكو لإنجاز عودة قوية في واحدة من ساحات نفوذها الأثيرة إبّان الحرب الباردة: أفريقيا. ويمكن، في ضوء ما تقدّم، فهم الحملة الغربية المكثّفة ضدّ أيّ خطوة روسية "طبيعية" لتعزيز العلاقات سواء مع الدول التي شهدت انقلابات ناجحة، أو غيرها من البلدان الموجودة على "اللائحة".
ما وراء «ملاحقة فرنسا»
في تجريد تقليدي لسياسات القوى الكبرى والمتوسّطة في أفريقيا، صُوّر الحضور الروسي في "حزام الانقلابات" على أنه "ملاحقة" روسية لفرنسا بهدف شغل الفراغ الذي تخلّفه في كلّ دول الحزام، ووصْف الأخيرة بأنها مجرّد "حدائق خلفية" للصراع التاريخي بين موسكو وباريس. لكن تتبّع الحضور الروسي في أفريقيا، يؤشّر إلى أن شاغل موسكو الرئيس يظلّ، في المرحلة الراهنة، بناء شراكات وصيغ تعاون ثنائي مع أكبر عدد ممكن من دول القارة، من دون ربط ذلك بالضرورة بملاحقة فرنسا. ويمكن أن يتّضح ذلك في سياق تمويل روسيا أكبر مشروعاتها في القارة (مفاعل الطاقة النووية في مصر بقيمة 25 مليار دولار)، ودخولها في استثمارات ضخمة نسبياً في تعدين الألماس في زيمبابوي (عبر شركة ألروسا Alrosa)، ومواصلة شركة "روسال" العملاقة عمليات تعدين البوكسيت في غينيا، وكذا تعهُّد روسيا، منذ قمّة سوتشي 2019، بتمويل مشروع السكك الحديد في الكونغو بقيمة 500 مليون دولار (وإنْ لم يَظهر إلى النور بعد). ويتّضح أن أنشطة روسيا في "حزام الانقلابات"، لا تخرج في طبيعتها (باستثناء دعم التعاون العسكري والأمني الثنائي مع دوله) عن مجمل توجّهات موسكو الاقتصادية في القارة، وفي الحدود المتعارف عليها دولياً وإقليمياً. وعلى سبيل المثال، وصلت صادرات روسيا إلى بوركينا فاسو، في عام 2021، إلى نحو 67 مليون دولار، تركّزت في المتفجرات الجاهزة (نحو 20 مليون دولار)، والقمح (17.5 مليون دولار)، بينما لم تتجاوز قيمة الصادرات البوركينية 125 ألف دولار، وهو النمط نفسه تقريباً الذي ينطبق على حالات التبادل التجاري الروسي مع مالي (436 مليون دولار)، وغينيا (238 مليون دولار تقريباً)، بينما لا يوجد تقريباً تعاون تجاري بين موسكو ونيامي (يُقدّر بآلاف الدولارات).
وتتغير الصورة جذريّاً في حالة الغابون، إذ يلاحَظ وجود توازن مثالي في الميزان التجاري بين البلدين يأتي في صالح البلد الأفريقي بنسبة طفيفة. ويكشف هذا الشقّ الاقتصادي الدؤوب في الدبلوماسية الروسية في أفريقيا، عن منطقية سياسات موسكو في "أفريقيا الفرنسية"، وأنها لا تتعلّق بعامل وحيد، كما يُصوَّر إعلامياً، أي ملاحقة النفوذ الفرنسي في القارة. كما أن عجز روسيا عن تحقيق قفزة كبيرة في علاقاتها التجارية مع دول القارة، عوضاً عن ضخّ استثمارات فارقة في "حزام الانقلابات"، يفسّر تركيزها على الشقَّين العسكري والأمني. ويمكن تفسير هذه الاندفاعة الروسية في مواطئ أقدام فرنسا "السابقة" في حزام الانقلابات وخارجه، بطبيعة متغيّرات العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية، ولا سيما على هوامش السباق الأميركي - الصيني (في أفريقيا هنا)، وعجز فرنسا عن القيام بأدوارها الموكلة إليها "غربياً" في حزام الانقلابات.
تراجعت، بحكم الضرورة، اللهجة الفرنسية إزاء «الانقلابات» في أفريقيا


«فاغنر» في أفريقيا: حصان طروادة روسي؟
تراجعت، بحكم الضرورة، اللهجة الفرنسية إزاء "الانقلابات" في أفريقيا، كما استبعدت باريس، مطلع الجاري، في تعليقات سياسية لافتة ومكرّرة لِما قالته واشنطن قبل أسابيع، ضلوع روسيا في الانقلابات، وإن رأت الأولى أن الأخيرة مستفيدة تماماً من الأحداث الجارية. وتوازى ذلك مع إعلان باريس خطوات تهدئة غير مسبوقة مع قادة النيجر، من دون الاعتراف بالأمر الواقع (لوموند، 6 أيلول)؛ إذ دخلت الأخيرة في محادثات مع القادة العسكريين من أجل إعادة انتشار قسم من القوات الفرنسية في هذا البلد.
وعلى نحو غير مباشر، فإن هذه التطوّرات كشفت عن عمق المشكلات التي تواجه دول حزام الانقلابات، وأن الاستعانة بروسيا لمواجهة عدد منها تتجاوز رواية أن مجموعة "فاغنر" مجرد واجهة للنفوذ الروسي في الإقليم، أو أنها أداة روسيا الناجزة في حزام الانقلابات وفي أفريقيا. لكن تظلّ هذه الرواية "دعائية" بشكل فجّ، إذ لا يمكن فصل الجدل الحالي حول "فاغنر" وأدوارها "في خدمة المصالح الروسية" عن سياق انخراط مجموعة واسعة من "شركات الأمن الخاصة" في مجمل العلاقات الدولية.
وقد طُرح هذا السياق بقوّة قبل عقدين منذ الغزو الأميركي للعراق (2003)، واستعانة القوات الأميركية والبريطانية بنحو 20 ألف عنصر من هذه الشركات، وهو ما دحض فرضيّات أكاديمية شهيرة مفادها أن "الدول الحقيقية لا تستعين بالمرتزقة"، وطُرح وقتَه سجالٌ مضمونه رفْض هذه الشركات تصنيفها كـ"شركات عسكرية خاصة" كونها لا تنخرط في أعمال قتالية وتكتفي بدعم "القوات النظامية" في مهامها التقليدية. ولم يحل ذلك دون تطوّرها في السنوات التالية للقيام بكلّ المهام حتى أصبح من الصعب الفصل بين طبيعتها الأمنية والعسكرية، وكرّس ظهور مفهوم هجين، وهو الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، ومن بينها مجموعة "فاغنر" نفسها. وبحسب دراسة استقصائية حول "تتبّع جذور فاغنر" (Candace Rondeaux, 2019)، فإن تطوّر أنشطة الأخيرة قبل ظهورها الملحوظ في أفريقيا في عام 2018، شمل توفير "مظلّة تنظيمية" للعديد من المنظّمات الصغيرة (مثل Anti-Terror Orel) التي نشطت على خطوط الأزمات في سوريا وأبخازيا والشيشان وأفغانستان والعراق (في موازاة حضور أميركي "متفهّم").

حرب «أوروبية» بالوكالة؟
عادت أجواء الحملات الإعلامية المألوفة في الحرب الباردة لتستهدف تمدُّد روسيا في أفريقيا، وما بات يُعرف بحزام الانقلابات فيها، إذ يمكن تلمُّس هذه الحرب الإعلامية الشرسة في مختلف النوافذ الغربية، وبشكل منتظم وموجّه تقريباً، ضدّ الحضور الروسي في القارة. وتقوم هذه الحملة على إعادة طرْح تصوّرات استفادة موسكو من ماضيها "غير الاستعماري" في القارة في دعم حضورها الراهن، وقيامها بشنّ حملات تشويه إعلامية ضدّ الغرب وفرنسا على وجه الخصوص، سواء عبر قنوات روسية رسمية أو وسائل التواصل الاجتماعي.
وعلى رغم ما عمدت إليه تقارير من وصف الأوضاع في إقليم الساحل (وخاصّة في النيجر) بأوكرانيا "أفريقية"، فإن التفاعلات الحالية داخل دول حزام الانقلابات وصلاتها الساعية إلى الندية مع فرنسا، ومقاربة الولايات المتحدة التقليدية بتبنّي مواقف منفردة ربّما تخالف توقعات حلفائها، والصلة الوثيقة بين خطوات روسيا الحذرة في غرب أفريقيا والهجمة الصينية المكثّفة (من النيجر إلى الغابون وكذلك في جمهورية الكونغو المجاورة، وغيرها من الدول المحيطة بالإقليم) كل ذلك لا يحيل إلى تصوُّر خوض روسيا حرباً "أوكرانية" الطابع في غرب أفريقيا، بقدْر ما أنه يحيل إلى تصوّر عثور موسكو على متنفّس لسياساتها الخارجية ووسيلة لاستمرار حضورها الدولي إلى جانب التنافس الكبير بين الولايات المتحدة والصين والذي لم يصل بعد إلى مرحلة الصدام المباشر في أفريقيا، وفي ظلّ وجود "تفاهمات" باتت محسوسة بين هذه القوى الفاعلة في "حزام الانقلابات".