في غضون أقلّ من 48 ساعة، بين يومَي الجمعة والسبت الماضيَين، سقط 12 جندياً للجيش التركي في منطقة خاكورك في شمال العراق، أثناء المواجهات مع مقاتلي «حزب العمال الكردستاني»، ليصبح هذا العدد هو الأعلى منذ 13 شباط 2021، حين سقط 13 جندياً تركيّاً في منطقة غارا في شمال العراق، ومنذ شباط 2020 حين سقط 32 جندياً في غارة نفّذها الطيران الروسي في إدلب. ولهذا، بدا وقع الخسارة ثقيلاً، خصوصاً أن وزير الدفاع التركي الحالي، ياشار غولر، الذي كان حتى حزيران الماضي رئيساً للأركان، تسلّم حقيبة الدفاع كمكافأة على جهوده في مكافحة عمليات «الكردستاني»، ولا سيما في شمال العراق. كما أن نائب رئيس الوزراء العراقي، وزير الخارجية فؤاد حسين، زار قبل الحادثة بثلاثة أيام، أنقرة، رفقةَ وفد عسكري واستخباراتي، حيث توافق مع نظيره التركي، حاقان فيدان، على أن «العمال» يشكّل تهديداً للأمن القومي في كلا البلدَين.وفي تفاصيل الحادثة، نجح مقاتلو «الكردستاني»، وسط الضباب الكثيف، في التسلّل إلى قاعدة عسكرية تركية في منطقة خاكورك إلى الشرق من جبال قنديل وإلى الجنوب من الحدود التركية، حيث أطلقوا من مسافة قريبة جداً، صواريخ وقنابل يدوية على الجنود، فقتلوا ستة، ثمّ أردوا ستة آخرين حين وصلت النجدة. وأثناء انسحاب المقاتلين الأكراد، تعرّض هؤلاء لنيران الجنود الأتراك، فقتل العديد منهم، فيما يسود اعتقاد بأنهم كانوا يحملون أجهزة رؤية ليلية. وأثارت الحادثة حزناً كبيراً في تركيا، إذ دعت المعارضة إلى إعلان الحداد العام على الجنود، بينما كتب الرئيس رجب طيب إردوغان، على حسابه في موقع «إكس»، أن «إستراتيجية تركيا في تجفيف منابع الإرهاب لن تتغيّر، وتركيا لن تسمح بتأسيس بنية إرهابية في شمال العراق وسوريا، ولا أن يكون الإرهابيون أداةً يتخفّى وراءها الاستعماريون». وفي خطابه يوم الإثنين، قال إردوغان: «القوى الاستعمارية تريد إضعافنا. نحن نعرف الفاعلين والمحرّضين».
كما كان وقْع عملية خاكورك كبيراً على الساحة السياسة، حيث اتّفقت أربعة أحزاب، اثنان منها في السلطة هما «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، وآخران في المعارضة هما «الجيّد» و«السعادة»، على إصدار بيان مشترك «يدين الإرهاب بكلّ أشكاله»، ويؤكد «مواصلة النضال» ضدّه. غير أنّ الأهمّ من مضمون البيان التقليدي، كان رفض «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، إضافةً إلى «حزب الشعوب للمساواة والديموقراطية» (حزب الشعوب الديموقراطي الكردي)، توقيعه، علماً أنها المرّة الأولى التي يرفض فيها حزب المعارضة الرئيس إمضاء بيان من هذا النوع. واستدعى القرار الآنف، دعوة صحف موالية لـ«العدالة والتنمية» إلى التنديد بخطوة «الشعب الجمهوري»، واعتبارها «تقسّم الشعب التركي»، و«تهدّد الأمن القومي» للبلاد.
غير أنّ «الشعب الجمهوري» ردّ على الحملة ضدّه ببيان باسم رئيسه، أوزغور أوزيل، دعا فيه إلى انعقاد البرلمان التركي فوراً، وأن يقدّم وزير الدفاع ما بحوزته من معطيات ومعلومات عن العملية. وجاء في البيان أن الحزب «يدين الإرهاب ومَن يدعمونه، ويقول إن الإرهاب لن يصل إلى أهدافه». لكن البيان اعتبر أن «ما يضاعف من حزن وألم الأمّة، أنه لم يتمّ إبلاغ الرأي العام بمعطيات دقيقة حول الأوضاع الأمنية للجيش التركي». في المقابل، رأى الناطق باسم «العدالة والتنمية»، عمر تشيليك، أن «موقف الشعب الجمهوري مثير للخجل»، مضيفاً: «بدلاً من أن يضع توقيعه على البيان، يختلق أعذاراً».
يرى البعض أن «التكتيك الأنجح هو أن تتمركز القوات التركية في منطقة بعمق ثلاثة كيلومترات داخل العراق»


وعلى هذه الخلفية، يقول نديم شينير، في صحيفة «حرييات»، إنه «للمرّة الأولى، لا يوقّع حزب الشعب الجمهوري على بيان مماثل. ويلتقي بذلك مع حزب الشعوب للمساواة والديموقراطية وحزب العمال الكردستاني»، لافتاً إلى أن «الشعب الجمهوري قطع الأمل من التعاون مع الحزب الجيد برئاسة مرال آقشينير في الانتخابات البلدية، ولذلك ذهب إلى الحدّ الآخر للتعاون مع الحزب الكردي». ويذكّر بأن الحزب كان قد عارض مذكّرة إرسال الجيش التركي إلى سوريا والعراق عامَي 2021 و2023، بعدما أيّدها أعوام 2015 و2017 و2019، واصفاً زعيمه السابق كمال كيليتشدار أوغلو بـ«الخطير»، والحالي أوزغور أوزيل بأنه «أكثر خطورة»، ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، القيادي البارز في الحزب، بأنه «الأكثر خطورة».
وكان النائب عن «الحزب الجيّد»، مساواة درويش أوغلو، قد اقترح أن توقّع الأحزاب بياناً مشتركاً «يلعن الإرهاب ويخفّف من آلام الأمّة»، و«يُظهر أنّنا قلعة لا تنهدم». وأيّدته في هذا الاقتراح أحزاب السلطة و«حزب السعادة»، لكن النائب عن «الشعب الجمهوري»، علي ماهر بشارير، اعترض، وقال إنه «في المبدأ مع بيان مشترك، ولكن أن يتحوّل البيان إلى مادّة دعائية بيد حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية، فإنّنا نرفض ذلك». فكانت النتيجة بياناً بتوقيع أربعة أحزاب، وآخر بتوقيع «الشعب الجمهوري». وبالتالي، يقول حاقان فيدان في «حرييات»: «(إنّنا) لم نُظهر أنّنا قلعة لا تنهدم».
وفي الإطار نفسه، يتّهم الكاتب المقرّب من إردوغان، عبد القادر سيلفي، الولايات المتحدة بالتعاون مع كلّ من عبدي مظلوم في سوريا، وبافل طالباني في العراق، بهدف «دقّ إسفين بين عائلة بارزاني الحاكمة في كردستان والحكومة العراقية من جهة، وحليفتهما تركيا من جهة ثانية». ويتساءل سيلفي عمّا إذا كان هجوم «حزب العمال» على القاعدة التركية في خاكورك مقصوداً مباشرة بعد ثلاثة أيام من زيارة وزير خارجية العراق إلى تركيا، والتي تمّت يوم 19 الجاري، معتبراً أن الهجوم «يستهدف مشروع طريق التنمية لمنع إنجازه»، ويرمي إلى منْع تركيا من أن تكون جزءاً من هذا المشروع الحيوي الذي سينقل البضائع من ميناء الفاو العراقي براً عبر العراق إلى تركيا فأوروبا. وبحسب سيلفي، فإن التعاون بين تركيا والعراق، ولا سيما في محافظة البصرة، «يغيّر المعادلات في العراق»، وإن «تركيا التي ستقوى بمشروع طريق التنمية تخيف الولايات المتحدة وسوريا، تماماً كما يخيف ممر زنغيزور، بين تركيا وآذربيجان، إيران». ويدعو الكاتب إلى احتلال شمال العراق بقوله إن «العملية أَظهرت أن الإرهاب في شمال العراق لن يحلّ إلّا كما في سوريا، أي إقامة منطقة أمنية بعمق معين».
وفي صحيفة «جمهورييات»، يقول العقيد المتقاعد، أوركون أوزيللر، إنه «كلّما ابتعدت القوات التركية عن الحدود، يصبح التواصل مع مركز العمليات أكثر صعوبة. مثل هذه العمليات تهدف إلى التلاعب بالجيش التركي على غرار تلك العمليات في التسعينيات، ودفْع الجيش للعودة بالتالي إلى نمط العمليات السابق في عبور الحدود وضرب الإرهاب، ثم العودة الى الداخل التركي». ويرى أوركون أن «التكتيك الأنجح هو أن تتمركز القوات التركية في منطقة بعمق ثلاثة كيلومترات داخل العراق، وأن تقوم الاستخبارات بعمليات موضعية في المناطق التي تلي تموضع الجيش التركي. هذه إستراتيجية ناجحة وتؤدي إلى تكتيكات ناجحة». لكن بعض الخبراء العسكريين الآخرين يقولون العكس، ومن هؤلاء رئيس دائرة الاستخبارات السابق في الجيش، إسماعيل حقي بكين، الذي يعتبر أن «على الجيش التركي أن يتوغّل أكثر في شمال العراق، وأن يسيطر على منطقة بعمق 40 كيلومتراً، وإلّا سيكون أمام سيناريو العودة إلى أساليب التسعينيات، وهو ما لا يريده أحد ولا يجدي نفعاً».