بخلاف زيارته السابقة إلى أنقرة قبل شهرين، حيث كانت محطّته الأخيرة في الشرق الأوسط، بدأ وزير خارجية الولايات المتحدة، أنتوني بلينكن، جولته الشرق أوسطية الجديدة من تركيا، رغم أن العلاقات الأميركية - التركية ليست في أحسن أحوالها. والتقى بلينكن، في إسطنبول، نظيره التركي، حاقان فيدان، والرئيس رجب طيب إردوغان الذي تقصّد ألّا يلتقي الوزير الأميركي في زيارته السابقة. وممّا رشح من الزيارة الحالية، أنها كانت «استطلاعية»، وهدفت إلى معاينة الموقف التركي من بعض القضايا التي تهمّ الأميركيين. ومع أن المحادثات مع فيدان وإردوغان تطرّقت إلى الوضع في غزة، التي شدد الرئيس التركي على أهميّة حصول وقف فوري لإطلاق النار فيها وإدخال المساعدات إليها بصورة دائمة، غير أن قضيّة «المقايضة» بين عضوية السويد في «حلف شمال الأطلسي» وبيع واشنطن طائرات «إف-16» لأنقرة، شكّلت محور المناقشات. وفي هذا الإطار، دعا الوزير الأميركي إلى استكمال عملية الموافقة داخل البرلمان التركي - في الـ16 من الجاري - على انضمام استوكهولم إلى الحلف، فيما أعلن الناطق باسم الخارجية الأميركية، ماثيو ميلر، أن البلدَين سيعملان على تقوية علاقاتهما التجارية والأمن في أوروبا. وفي المحصّلة، احتفظ كلّ طرف بموقفه المعلن والمنتظِر للطرف الآخر للقيام بالخطوة الأولى. وما لم تطرأ مفاجآت، فإنّ كفّة موافقة البرلمان تَرجح، وذلك بعدما وافقت «لجنة الشؤون الخارجية» فيه على القرار قبل أسبوعين، بفعل تأييد كل من حزبَي «العدالة والتنمية» و«الشعب الجمهوري» له.في هذا الوقت، بدأ ماراثون الانتخابات البلدية في تركيا، مع إعلان إردوغان، أول من أمس، باسم «العدالة والتنمية»، أسماء بعض المرشّحين لها، على أن تُعلن الأسماء المتبقية يوم الأحد المقبل، أي قبل أيام من إغلاق «اللجنة العليا للانتخابات» الباب أمام التقدّم للترشيح. وافتتح الرئيس الحملة الانتخابية للبلديات، بشعار «من جديد إسطنبول، من جديد حزب العدالة والتنمية»، والذي يُفهم منه أن أُولى أولويّات إردوغان هي «استعادة» رئاسة بلدية إسطنبول من «حزب الشعب الجمهوري» الذي هزم مرشّحه أكرم إمام أوغلو، في عام 2019، أقوى شخصية من «العدالة والتنمية» حينها بعد إردوغان، رئيس الوزراء والحزب بن علي يلديريم. وعلى رغم أن الانتخابات البلدية تأتي في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية، بعد الانتخابات الرئاسية والنيابية، لكنها تمثّل بالنسبة إلى إردوغان رمزية كبيرة، ولا سيما في مدينة إسطنبول، حيث بدأ الرئيس سُلّم صعوده منذ فوزه برئاسة بلديتها عام 1994 عن «حزب الرفاه» الذي كان يتزعّمه الراحل نجم الدين إربكان. والجدير ذكره، هنا، أن البلدية لم تخرج من يد «الرفاه» أو «حزب الفضيلة» الذي ورثه أو «العدالة والتنمية» الذي ورث الإثنين، إلّا عام 2019.
حظوظ إمام أوغلو المرتفعة لكن غير الحاسمة، جعلت إردوغان يتمهّل كثيراً في اختيار مرشّحه لبلدية إسطنبول


لكن الحسابات هذه المرّة لا تتعلّق فقط بالبُعد الوجداني من المعركة، بل بحسابات إردوغان السياسية اللاحقة. فهو يرى، وفقاً لما يتداوله كتّاب «العدالة والتنمية»، أن فوز إمام أوغلو ببلدية إسطنبول، يعني أنه سيكون المرشّح الأوفر حظّاً لتولّي الرئاسة في عام 2028، وخصوصاً أن حظوظه كانت قوية جدّاً في الفوز برئاسيات أيار الماضي، لو كان ترشّح عن المعارضة. غير أن افتعال السلطة قضيّة ضدّه (تحقير أعضاء «اللجنة العليا للانتخابات» عام 2019)، أدخله في مسار قضائي جعل من ترشّحه محفوفاً بمخاطر سجنه عشية الانتخابات، فكان أن ترشّح زعيم الحزب، كمال كيليتشدار أوغلو. ويرى الموالون لإردوغان أن خسارة إمام أوغلو ستعني أن الرئيس سيتجرّأ على تعديل الدستور وإلغاء البند الذي يحدّد ولايات رئيس الجمهورية باثنتَين فقط، بحيث يحقّ له الترشّح «ما دام حيّاً».
وإذ لم يكن سهلاً اختيار مرشّح لـ«تحالف الجمهور» لمواجهة إمام أوغلو، لأن حظوظ الأخير في الاستطلاعات لا تزال مرتفعة، يمكن في هذا الإطار، التوقّف عند إعلان «الحزب الجيّد»، بزعامة مرال آقشينير، انسحابه من التحالفات البلدية مع سائر أحزاب المعارضة، وبالتالي عدم تأييد إمام أوغلو في إسطنبول. وبذلك، تكرّر آقشينير مواقفها المشوَّشة المحبِطة للمعارضة، بعدما كانت أعلنت، في الانتخابات الرئاسية الماضية، دعمها لكيليتشدار أوغلو ثم عارضته ثم عادت لتؤيّده، ما أدّى إلى إحجام العديد من أنصارها عن التصويت له. والواقع أن عدم تأييدها إمام أوغلو، سيُفقد الأخير أصواتاً وازنة للفوز، لأن الشرط الأساسي لنجاحه هو أن تكون المعارضة موحّدة خلفه.
ومن هنا، فإن حظوظ مرشح المعارضة المرتفعة لكن غير الحاسمة، جعلت إردوغان يتمهّل كثيراً في اختيار مرشّحه لبلدية إسطنبول. وبعدما كان مرجّحاً اختيار وزير الداخلية، علي يرلي قايا، لدوره في حفظ الأمن ومكافحة التجسّس، أو صهر إردوغان، سلجوق بيرقدار، مهندس المسيّرات التركية الشهيرة، يبدو أن الرئيس اعتمد في حساباته على سيرة المرشّح الخدماتية، أكثر من السياسية، فوقع الخيار على وزير البيئة والتمدين والتغير المناخي السابق، النائب عن مدينة إسطنبول حالياً مراد قوروم، الذي يُنظر إليه من قبل الرئيس على أنه قام بجهد مميّز لمواجهة تداعيات زلزال السادس من شباط الماضي المدمّر.
ويبلغ قوروم من العمر 48 عاماً، وهو من مواليد أنقرة، وقد عمل مهندس إنشاءات، ولم يبدأ مساره السياسي الرسمي إلا عام 2018، مع تعيينه وزيراً للبيئة، واستمر في منصبه حتى عام 2023، عندما استقال وترشّح للنيابة عن إسطنبول وفاز بالمقعد. وبعد إعلان ترشيحه، قال قوروم: «(إنّنا) نخطو الخطوة الأولى في رحلة سعيدة ومقدّسة». وعلى رغم أن الرجل لا يتمتّع بـ«سيرة» قوية وطويلة، غير أن خوض أحزاب السلطة، المعركة موحّدة، في موازاة تشتّت المعارضة، ومحاولة إردوغان تسخير كل ما أوتي من إمكانات للفوز بإسطنبول مجدداً، قد تكون عوامل لمصلحة قوروم، فيما تبقى حظوظ إمام أوغلو رهن استعدادات المعارضة والوضع الاقتصادي غير المستقرّ.