تمتاز آذربيجان بخصائص جعلت منها قوة إقليمية صاعدة ومؤثرة. فموقعها الجغرافي (بمساحة 86600 كلم2) في غاية الأهمية، حيث تجاور قوّة عالمية كبرى هي روسيا، وقوّتَين إقليميتَين كبريين، هما إيران وتركيا، كما أنها جزء من الدول المطلّة على بحر قزوين الغني بالموارد الطبيعية، فضلاً عن كونها غنية بالنفط والغاز الطبيعي، والذي امتدّ تأثيره ليجعل من هذا البلد بديلاً عالميّاً للغاز والنفط الروسيَّين إلى أوروبا. أيضاً، تمتاز آذربيجان بموقعها من الاصطفافات الإقليمية والدولية، كونها حليفاً لتركيا في منطقة القوقاز، وهو ما شكّل العامل الأهمّ في التفوّق الآذربيجاني - التركي في حربَي قره باغ (2020 و2023). ورغم انتماء الغالبية الساحقة من الشعب الآذربيجاني إلى العقيدة الشيعية (85% من مجموع السكان البالغ نحو 10 ملايين نسمة)، التي تنتمي إليها غالبية الشعب الإيراني، إلا أن باكو تُعدّ حليفاً قويّاً لإسرائيل على مختلف المستويات الاقتصادية والعسكرية. ولذلك عظيم التأثير في معادلات القوّة في القوقاز، ولا سيما الجنوبي، بما يمسّ التموضع الإيراني تحديداً، حيث تنظر طهران إلى التحالف بين باكو وتل أبيب على أنه مصدر الخطر الأكبر عليها، ولا سيما في حال السير قُدُماً في شقّ «ممرّ زينغيزور»، الذي يُعدّ ضربةً استراتيجية للنفوذ الإيراني في المنطقة. ورغم «الانحياز» الغربي العاطفي إلى يريفان، وانتقاد باكو للتعاطف المشار إليه، فإن الغرب يرى في آذربيجان حليفه الأول، نظراً إلى المصالح الاقتصادية والأمنية والعسكرية المشتركة، كما الدور الذي يمكن أن تلعبه في كبح تمدُّد النفوذَين الروسي والإيراني. ولا يغيب أيضاً الدور المحوري الذي تلعبه آذربيجان كبلد واصل بين مجموعة الدول الناطقة باللغة التركية، بين القوقاز وتركيا وآسيا الوسطى. وانطلاقاً من كلّ ذلك، كانت للانتخابات الرئاسية التي جرت في آذربيجان، في السابع من الجاري، أهمية لمعرفة مسارات السياسة الآذربيجانية إقليميّاً ودوليّاً، علماً أن نتائجها كانت معروفة سلفاً. وإذ يقضي النظام الرئاسي في هذا البلد بانتخاب الرئيس لولاية من خمس سنوات، فإن أول رئيس فيه بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، هو عياض مطلبوف (1990-1992)، الذي استولى الأرمن في عهده على معظم الأراضي التي كانوا يعتقدون أنها في الأصل تحت الاحتلال الآذربيجاني، ومنها كلّ قره باغ بما فيها شوشي. ومن بعد مطلبوف، تولّى أبو الفضل ألتشي بك، الذي اتّصف حكمه بالتشدّد القومي ونزعته المعادية لإيران والموالية لتركيا، الرئاسة، ولكنه استقال بعد سنة، ليأتي من بعده، في انتخابات 1993، حيدر علييف، الشخصية الأكثر تأثيراً في آذربيجان، في العهد السوفياتي. وأُعيد انتخابه في عام 1998، ولكنه مرض قبل انتهاء ولايته بقليل، فأجريت انتخابات مبكرة قبل وفاته تولّى على إثرها ابنه، إلهام، الرئاسة، وكان يبلغ من العمر 42 عاماً. ومع إعادة انتخابه في عام 2008، ذهب علييف الابن إلى إدخال تعديل على الدستور، يتيح إعادة انتخاب الرئيس من دون تحديد عدد الولايات، بعدما كان محصوراً بولايتَين رئاسيتَين، ليُنتخب مجدّداً عام 2013، ويعدَّل الدستور مرّة أخرى، وتصبح مدة حُكم الرئيس سبع سنوات بدلاً من خمس.
يكفي أن الانتخابات تجري للمرّة الأولى في «كل آذربيجان»، أي بعد «تحرير» قره باغ نفسها


وإذ كان يرتقب أن تجري الانتخابات، في مطلع العام المقبل، إلا أن علييف قرّر تقريب الموعد، للاستفادة من زخم الانتصار الذي حقّقه في قره باغ، في أيلول الماضي، بعد تمكُّن جيشه من الاستيلاء على كامل الإقليم، وتهجير الأرمن منه. وكما كان متوقعاً، فقد جرت الانتخابات في «جو عائلي»، إذ تتولّى زوجة علييف، مهربان، نيابة الرئاسة. وقد اعترضت قوى سياسية على تقريب موعد الانتخابات، التي أعلن عنها قبل شهرين فقط، بما لا يمكّن المرشّحين من الاستعداد لها، فكان أن قاطعتها معظم أحزاب المعارضة. لكن ذلك لم يكن ليقدّم أو يؤخّر، بعدما بات علييف بطلاً قوميّاً، تمكّن من إجراء الانتخابات للمرّة الأولى في «كل آذربيجان»، أي بعد «تحرير» قره باغ نفسها. وللتأكيد على هذه الخاصية للانتخابات الرئاسية، اقترع علييف وزوجته وعائلته في عاصمة قره باغ، ستيباناكرد (خانكندي)، حيث «وجّه رسالة إلى العالم تؤكد على آذرية قره باغ»، وفقاً لما كتب مبارز عبد اللاييف، في صحيفة «يني آذربيجان». وقال عبد اللاييف إن «الاقتراع في عاصمة قره باغ، هو أيضاً رسالة إلى الأرمن وداعميهم الغربيين، ولا سيما في فرنسا والاتحاد الأوروبي. رسالة علييف الصامتة من خانكندي، هي أنّنا سنكون هنا إلى الأبد، بل إن اسم خانكندي ليس سوى الاسم التاريخي للمدينة التي سميت بمرسوم سوفياتي عام 1923 بستيباناكرد».
وشارك في عملية الاقتراع حوالى خمسة ملايين ناخب، أي نحو 77% من الناخبين، فيما نال علييف حوالى 94% من الأصوات، وحصل أقرب منافس له، وهو زاهد عروج، على 2%، وفاضل مصطفى على 1.5%. وفيما أبدى معظم زعماء العالم ترحيبهم بإعادة انتخاب الرجل، ووجهوا رسائل تهنئة إليه، أمل الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في أن تصبح «علاقات الأخوة والصداقة بين البلدين في عهد رئاسة علييف الجديدة أكثر قوة».
ومع التجديد لعلييف لسبع سنوات أخرى، تدخل أذربيجان مرحلة من التحديات الإقليمية، يبرز في مقدّمها إبرام اتفاق سلام نهائي مع أرمينيا، يقرّ بأذرية قره باغ، ويرسّم الحدود الدولية بين البلدين، على أن يجري شقّ «ممرّ زنغيزور» وما سيرخيه من تداعيات على العلاقات مع طهران، فيما ستسعى باكو إلى الحفاظ على التوازن في العلاقات الدولية بين الغرب وروسيا، في ظلّ استمرار التحالف الثلاثي الآذربيجاني - التركي - الإسرائيلي.