على عكس النسخ الخمس الأخيرة الماضية من لقاءات «أستانا»، والتي غلب عليها الطابع الشكلي والبروتوكولي، من دون تحقيق أي اختراق سياسي حقيقي في جدار الأزمة السورية، حملت النسخة العشرون مجموعة كبيرة من المتغيرات، إذ أعاد اللقاء الأخير ترتيب المسار الروسي، ووسّعه ليشمل مشاركة عربية، ما يهيّئ الأجواء لبدء عملية التطبيع السورية ـــ التركية، فضلاً عن إحياء أعمال «اللجنة الدستورية». وجاء البيان الختامي للقاء الذي امتدّ على مدار يومين، وعُقدت على هامشه مجموعة كبيرة من اللقاءات الثنائية والثلاثية والرباعية، ضمن المبادرة الروسية – الإيرانية لإعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة، هذه المرة، بعيداً عن العموميات المعتادة، مخصّصاً جزءاً كبيراً منه للحديث عن العلاقات السورية التركية، والتي تتابع اللجان الأمنية والعسكرية المشتركة العمل على مناقشة مجمل تفاصيلها الخلافية، ضمن خريطة طريق بخطوط عريضة أعدّتها موسكو، تقوم على مبدأ «الكل رابح» من خلال ربط المصالح الاقتصادية بين البلدين، وترتيب الشمال السوري، الملفّ الأكثر تعقيداً. كما جدّد البيان رفض الدور الأميركي في سوريا، والتشديد على ضرورة استعادة حقول النفط في الشمال الشرقي، وإدانة العقوبات الأحادية الجانب، والدعوة إلى تسريع وتيرة مشاريع التعافي المبكر، وتنشيط ملف العودة الطوعية للاجئين، وهي ملفات توافقية بين الدول الأربع (سوريا وتركيا وإيران وروسيا).وبالإضافة إلى تأكيده رفض أيّ مخططات انفصالية، في إشارة إلى «الإدارة الذاتية الكردية»، أشار البيان، أكثر من مرة، إلى الفصائل المسلحة في الشمال السوري، معيداً التذكير باتفقات سابقة (اتفاقات سوتشي وملحقاتها)، ستشكّل الأساس الذي ستُبنى عليه جميع التحركات الميدانية والسياسية بالنسبة إلى هذا الملف، علماً أن الاتفاقات المذكورة تفرض على تركيا «عزل الإرهابيين»، و«حلحلة ملف إدلب وفتح الطرق الرئيسية المغلقة بما فيها طريق حلب – اللاذقية (M4)»، بينما تقوم موسكو ودمشق بضمان الحدود، بما يعني استعادة الجيش السوري السيطرة على المناطق الحدودية، بالإضافة إلى مدن وبلدات عدة تعتبرها أنقرة «حساسة»، على رأسها منبج وتل رفعت.
عُقدت على هامش اللقاء مجموعة كبيرة من اللقاءات الثنائية والثلاثية والرباعية


وفي وقت أعلن فيه نائب وزير خارجية كازاخستان، كانات توميش، نهاية استضافة بلاده للقاءات هذا المسار، أكّدت مصادر مطّلعة تحدّثت إلى «الأخبار»، أن المسار الروسي مستمر، وسيتوسع خلال الأسابيع القليلة المقبلة، حيث من المتوقع أن يُعقد لقاء جديد خلال شهرَي آب أو أيلول المقبل، في مدينة سيُعلن عنها لاحقاً، وسط توقّعات أن تكون هذه المدينة عربية. كذلك، أشارت المصادر إلى أن المجتمعين اتفقوا على عقد الجولة التاسعة من لقاءات «اللجنة الدستورية» خلال الفترة ذاتها، بعد الاتفاق على مكان جديد لاستضافة أعمال اللجنة، بدلاً من جنيف. ورجّحت أن تُعقد اللقاءات في مسقط، في حين يجري طرح أسماء مدن أخرى من بينها عمّان، بينما لا يزال الأمر «قيد المباحثات»، مضيفة أن اللقاءات ستتم وفق صيغة جديدة، عن طريق تشكيل لجان مشتركة تجتمع لفترات أطول مقارنة باللقاءات السابقة.
وأمام النتائج التي اعتبرها المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ورئيس الوفد الروسي في اجتماعات أستانا، ألكسندر لافرنتييف، «ناجحة جداً»، وبالنظر إلى حجم الملفات التي تم التوافق عليها، يمكن اعتبار هذا الاجتماع محورياً ضمن المسار الروسي. فمن جهة، هو يفتح الباب أمام تسريع وتيرة الحل بمشاركة فعّالة من أطراف إقليمية ودولية ذات ثقل. كما أنه يشدد الخناق على واشنطن التي تحاول بالتعاون مع دول في الاتحاد الأوروبي، إفشال المسار الروسي، لإبقاء الوضع الراهن في سوريا قائماً، لما يحققه هذا الوضع من ضمان مصالحها، سواء لناحية تحصين وجودها العسكري، أو حتى استثمار الملف السوري في أروقة السياسة. وخلال الفترة المقبلة، من المنتظر إعادة تنشيط الجهود الروسية لإعادة اللاجئين السوريين، بمشاركة عربية فعّالة، وهي جهود قوبلت بمحاولات أميركية مستمرة لإفشالها، حيث توقفت عمليات العودة الطوعية من الأردن، وقوبلت التحركات في لبنان بحملة إعلامية شرسة للتشويش عليها. كذلك، يُنتظر أن تحسم مسألة المساعدات الإنسانية عبر الحدود، والتي سيناقشها مجلس الأمن بعد أقل من أسبوعين، بشكل يضمن وفاء الأمم المتحدة بتعهداتها حيال التوزيع العادل والمتساوي للمساعدات، وتنشيط عمليات إعادة الإعمار، والتي ترتبط بملف اللاجئين السوريين في دول الجوار ومسألة عودتهم. أما ميدانياً، فمن المتوقع أن يشهد الشمال السوري، الذي تحركت قطع من الجيش السوري إليه خلال الأيام الثلاثة الماضية، تغييرات إضافية، بالتوازي مع عمل تركي جاد هذه المرة للوفاء بتعهدات «سوتشي»، الأمر الذي من شأنه أن يدفع العلاقات السورية ـــ التركية إلى مرحلة جديدة.