على رغم التوغّلات البرية المحدودة التي بدأتها القوات الإسرائيلية في قطاع غزة، مع دخول العدوان أسبوعه الرابع، إلّا أن التساؤل نفسه لا يزال يراوح مربّع التكهّنات: هل أَطلقت إسرائيل عمليتها البرية، والمراد منها تحقيق ما لا يتحقَّق إلّا من خلالها، أي حسم الحرب وإسقاط حُكم حركة «حماس»؟ بدايةً، استهلّت إسرائيل تحرّكها على الأرض بتوغّلات «آمنة»، لا تستدعي الكثير من المخاطرة، ولا تفرض على العدو دفْغ أثمان كبيرة (قتلى وجرحى وأسرى)، كونها لا تتجاوز الكيلومترَين أو الثلاثة، قبل التراجع إلى الخلف، من دون الاضطرار للتمركز داخل القطاع. وفي ما بعد، أَدخلت تعديلات على أدائها، متّجهةً نحو ما يسمّى «التوغّل في العمق»، وهو ما يعني مناورة برية محدودة جداً، يسبقها قصف يهدف إلى التدمير من جهة، وإلى تعمية أهداف المدافعين في الخطوط الأمامية من جهة أخرى، ويتبعها تدمير كامل يشوّه معالم الطبيعة الجغرافية والعمرانية للمكان المدمّر، حيث يُصار إلى تثبيت القوات في مراكز تحكُّم وسيطرة ميدانيَّين، بصورة توحي بأن وجودها سيكون دائماً. على أن الثابت الوحيد في كل هذه التوغّلات، هو محاولة عدم دفع أثمان يعتدّ بها، والتمركز في النقاط التي يمكن الوصول إليها، كهدف وسط لتحقيق غاية أخرى، وإنْ كان البحث في الخطوات التالية لا يزال مستمراً.وهكذا، يمكن القول إن التوغّلات ليست سوى مقدّمة للعملية البرية «الموعودة»، لكنها لا تعني أبداً أن هذه الأخيرة التي تأجّلت طويلاً باتت وشيكة، فيما ليس معروفاً أصلاً ما إذا كانت ستُنفّذ، علماً أنها لا تزال مستبعدة، ليس نظراً إلى الأثمان التي ستدفعها دولة الاحتلال من جرّائها فحسب، بل كونها تفسد مروحة واسعة جداً من المصالح الإسرائيلية، وبما قد يصل إلى حدّ التهديد الوجودي للدولة العبرية. ولهذا، تكثّف واشنطن ضغوطها على تل أبيب، دافعةً إيّاها إلى الاستعاضة عن «المناورة البرية»، بالتوغّلات المحسوبة والآمنة نسبياً، على أن يصار لاحقاً إلى البناء على نتائجها. ولعلّ من بين الأسباب التي تمنع تنفيذ تلك العملية، أنها باتت من المحدّدات التي تدفع الآخرين إلى التوثّب لتصعيد المواجهة على أكثر من جبهة، ولا سيما الشمالية، بعدما لمس الجانب الإسرائيلي أن خطّها البياني المتصاعد، مقترن إلى حدّ كبير بما يجري في ميدان غزة.
تراجعت السقوف الإسرائيلية عمّا كانت عليه في بداية الحرب بشكل واضح


على هذه الخلفية، تمنع إسرائيل نفسها من وصف التوغلات البرية، بأنها «المناورة البرية»، أو «الخطوات الأولى» لها، وسط تكتّم وتعتيم مقصودَين في سياق معركة يمثّل التأثير في وعي الطرف الآخر جزءاً كبيراً منها، إلى جانب الأهداف المادية المُراد تحقيقها. ومن هنا، يمكن اختصار ما يعنيه ذلك بالآتي:
- أولاً، بدأت إسرائيل تدرك حدود قوتها وإمكاناتها، وأن السقوف المرتفعة التي وضعتها في بداية الحرب، غير قابلة للتحقّق.
- ثانياً، إن العملية البرية، وإنْ كانت تتماشى مع توقّعات الجمهور الإسرائيلي وغريزة الانتقام لديه، لم تَعُد محسومة، علماً أنه يراد من التوغّلات الحالية الإيحاء بأن القرار صدر، وأنه في مراحل التنفيذ.
- ثالثاً، ينتشر الإسرائيليون في القطاع في أماكن لا تضطرّهم لتحمّل أكلاف عالية، سواء على الحافة الحدودية، أو أعمق قليلاً، مع انتشار مماثل وراء الخطوط، بما يكفل تجزئة غزة إلى قطاعات جغرافية قد تصل إلى أربعة أو أكثر، يُراد أن يجري التحكّم بمفاصلها عن بعد من جهة إسرائيل.
- رابعاً، لا تلغي التوغّلات إمكانية بدء مناورة برية، إذ وفقاً لنتائجها، تتحدّد الخطوة اللاحقة، علماً أن العامل القاطع في هذا السياق هو احتمال تحرّك الجبهات الأخرى.
- خامساً، تتوافق التوغّلات مع التصوّر الميداني المراد تحقيقه في اليوم الذي يلي الحرب: خلق حزام أمني تسيطر عليه إسرائيل نارياً، ويفصل القطاع وفلسطينييه عن أراضي عام 1948 ومستوطناتها وسكانها؛ وإيجاد رافعة ضغط ميدانية عبر السيطرة على أراضٍ في القطاع، لتمكين الولايات المتحدة من فرض شروطها وإملاءاتها، سياسياً وأمنياً، مع الإشارة إلى أن هذه المرحلة لم يحِن أوانها بعد.
وفي تصريح رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، تامير هايمن، الذي يُعدّ واحداً من مستشاري الحرب غير المعلنين في وزارة الأمن، والأركان العامة للجيش، إشارة إلى الشيء ونقيضه، إذ يقول إن «الشيء الجيّد حالياً هو أن العدو لا يفهم تماماً ما الذي يجري، هناك شيء قوي جداً وثقيل جداً، بطيء لكن مع قوة نيران استثنائية تقوم بتليين العدو على الجبهة وتمكّنه من المناورة، ما سيقود إلى شعور بعدم قدرة العدو على وقف هذا الأمر». ويمكن في هذا الإطار، طرح سؤالَين: ما الذي يدفع إسرائيل إلى تليين عدو، إن لم يكن صلباً جداً؟ وهل لدى هذا العدو شعور بأنه قادر على صدّ المناورة البرية، كي يصار إلى عكس شعوره ذاك عبر «التليين»؟
في المحصّلة، تراجعت السقوف الإسرائيلية عمّا كانت عليه في بداية الحرب بشكل واضح، فيما التوغّلات البرية التي يراد من ورائها التعويض عن المناورة البرية، وتحقيق جزء من أهدافها، تحمل في طياتها الشيء ونقيضه. قد تنجح هذه التوغّلات في تمهيد الطريق أمام المناورة البرية، في حال كانت ردود الفعل في القطاع وغيره محدودة، إلا أنها لا تنفي أو تؤكد حدوث المناورة. ولكن، ما هو معلوم إلى الآن، أن إسرائيل تخشى المجازفة البرية الواسعة، كونها متيقّنة من نتائجها «غير السارّة»، على رغم أنها مضطرة لها، وتلك هي المفارقة.