«لا يمدّ الأميركيون جسراً جوياً عسكرياً لإسرائيل فحسب، وإنما أيضاً يمدّون قطاراً جوياً سياسياً، هدفه جَسْر الفجوات في كل ما يتصل بمجالات إدارة الحرب، وفي مقدّمتها اليوم التالي عقب انتهاء الأخيرة، ومواجهة التحديات الإقليمية في لبنان، والبحر الأحمر». هكذا لخّص البروفيسور إيتان جلبواع، الخبير في شؤون الولايات المتحدة في جامعة «بار إيلان»، والباحث الكبير في «معهد القدس للإستراتيجية والأمن»، زيارات المسؤولين الأميركيين لإسرائيل، والتي شملت وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، ووزير الدفاع، لويد أوستن، الذي وصل برفقته أيضاً رئيس هيئة أركان الجيوش الأميركية، الجنرال تشارلز براون، في حين انضمّ رئيس وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، ويليام بيرنز، إلى القطار، مشاركاً مع رئيس «الموساد»، ديفيد برنياع، في تحريك صفقة لتبادل الأسرى بين دولة الاحتلال وحركة «حماس».بحسب جلبواع، فإن «الانغماس الأميركي العميق في حرب تديرها إسرائيل، غير مسبوق إطلاقاً، وهو نابع من أن الحرب التي تخوضها إسرائيل هذه المرّة هي أيضاً غير مسبوقة، ولم تخض مثلها حرباً مركّبة ومتواصلة، ذات أهداف تطاول تأثيراتها وانعكاساتها الإقليم والعالم بشكل كبير». ويلفت إلى أن الأميركيين جاؤوا «ليستمعوا إلى تقارير مفصّلة حول ما يجري في الميدان، وحول البرامج العسكرية والسياسية للحرب المتواصلة. كما أنهم جاؤوا لتقديم المشورة، وللتأكد من أن السياسة الإسرائيلية ستظل قريبة قدر الإمكان إلى مصالحهم»، مستدركاً بأن أوستن هو «جنرال بأربع نجوم، وقد قاد القوات الأميركية في العراق، وكذلك القيادة المركزية... وكأميركي يفهم بشكل جيد معنى الحرب ضد الإرهاب في المناطق المبنيّة المكتظّة، أكثر من وزير الخارجية، ومن مستشار الأمن القومي». وبناءً على ما سبق، فإن تصريحاته في خلال زيارته «كانت واضحة وحازمة في ما يتعلق بحق (إٍسرائيل) في إخضاع حماس، وتحرير المختطفين، والدعم العسكري الذي سيُمكّن إسرائيل من تنفيذ وتحقيق أهدافها».
مع ذلك، وبالرغم من إعلانه أن الولايات المتحدة «لم تضع موعداً محدداً لإسرائيل لإنهاء الحرب»، أراد أوستن، وفقاً للباحث الإسرائيلي، أن يعرف «متى تخطط إسرائيل للانتقال من المرحلة الحالية بشدّتها العالية، إلى مرحلة بوتيرة ووطأة منخفضتَين، تأمل الإدارة الأميركية في دخولها خلال أسابيع معدودة». أما بخصوص اليوم التالي للحرب، فإن «ثمة توافقاً بين إسرائيل والولايات المتحدة حول أن إسرائيل لن تنشئ سلطة احتلال في غزة، وأن لن يكون لحماس أي تمثيل في السلطة الجديدة التي ستقام بعد الحرب»، لكن «الولايات المتحدة معنيّة بعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة بعد أن تجري تغييرات في تركيبتها وإدارتها»، في حين يعارض نتنياهو ذلك، «ومعارضته بشكل رئيسيّ موجّهة إلى قاعدته الانتخابية». أمّا وزير الأمن، يوآف غالانت، فيتحدث عن سيطرة مدنيّة دولية في غزة، من شأنها أن تستبدل «حماس» والسلطة كلتيهما. ولذلك، «تخشى الولايات المتحدة من خطط إسرائيل للعمل عسكرياً في غزة لمنع عودة حماس إلى السلطة هناك، وإقامة منطقة أمنية على طول الحدود مع إسرائيل».
ووفقاً لجلبواع، خصّص المسؤولون في الإدارة الأميركية هذه المرّة «وقتاً أكبر» لمسألتين إضافيتين، الأولى في الشمال إزاء «حزب الله»، والثانية في مضيق باب المندب إزاء هجمات «أنصار الله» ضد سفن تجارية ومدنية. ويشير إلى أن «الولايات المتحدة بذلت جهداً حثيثاً لمنع توسّع التوتر في هاتين الساحتين، ولكن ما حدث هو خلاف ذلك تماماً»، مضيفاً أنه حتى الآن «تحاول واشنطن العمل من خلال نماذج دبلوماسية وعسكرية نجحت في الماضي، مثل اتفاق الغاز الذي توصلت إليه إسرائيل ولبنان في عام 2022، وحدّدا من خلاله الحدود البحرية الاقتصادية بينهما؛ وفي البحر الأحمر من خلال نموذج القوة البحرية الدوليّة، التي أنهت ظاهرة القراصنة الصوماليين في عامَي 2008 و2009»، غير أن «احتواء الولايات المتحدة لهجمات الحوثيين - التي تنتهك سلسلة من قوانين الملاحة البحرية الدولية - تخوّفاً من اتساع الحرب لتطاول دولاً خليجية، يبدو أنه قد يتغيّر».
ففي البداية، أرسلت واشنطن حاملة الطائرات «آيزنهاور» والسفن المرافقة لها، ومدمّرات أخرى إلى الخليج العربي - الفارسي، في محاولة لردع «أنصار الله» وإيران، «غير أن ذلك لم يكن كافياً». وفي ضوء قرار شركات السفن الكبيرة حول العالم التوقف عن الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس واختيار الطريق الطويل حول أفريقيا، غيّرت الولايات المتحدة اتجاهها، خصوصاً أن الطريق التجاري البديل يكلّف أكثر بكثير من طريق باب المندب وقناة السويس، سواء على مستوى أسعار النقل، أو على مستوى أسعار السلع حول العالم. وعلى هذا الأساس، أعلن أوستن، من البحرين، إقامة قوّة مهام متعددة الجنسيات باسم «حارس الازدهار»، لا يزال «من غير الواضح ما إن كانت ستكتفي بمرافقة السفن التجارية وتأمين الحماية لها، أم أنها ستقوم بهجمات عقابية عينية ضد أهداف للحوثيين. كما أنه من غير الواضح، ما الذي ستفعله الولايات المتحدة ضد إيران»، بحسب جلبواع، الذي يعتبر أن الأمر «المثير للدهشة بشكل خاص»، هو «موقف مصر، المتضررة الرئيسية من منع عبور السفن عبر قناة السويس». وعلى رغم هذه الضبابية، يرى الباحث أن الزيارات الأميركية الأخيرة «تشير إلى استعداد الولايات المتحدة للبقاء إلى جانب حلفائها من العرب وإسرائيل، لمواجهة التحديات التي تفرضها إيران ووكلاؤها الإرهابيون في المنطقة»، مرجّحاً استمرار ذلك «بوتيرة عالية حتى تتحقق الأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة وإسرائيل».
من جهتها، ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، نقلاً عن مصادر سياسية لم تسمّها، أنّ «هناك رغبة كبيرة لدى الجانبين الأميركي والإسرائيلي في التوصل إلى صفقة تبادل أسرى ولكن ليس بأي ثمن. إذا وضعت حماس شرط انسحاب كل قواتنا فهذا ليس وارداً في الحسبان. أما إذا كانت حماس واقعية ووافقت على صفقة مشابهة للصفقة السابقة فهناك مجال للحديث». وأكّدت المصادر أن المفاوضات التي يخوضها رئيس «الموساد»، ورئيس الوزراء القطري، محمد بن عبد الرحمن آل الثاني، ورئيس «سي آي إيه»، في وارسو «لا تزال في بداية الطريق، وليست قريبة من صفقة إطلاقاً». مع ذلك، فإن «الولايات المتحدة عازمة على التوصل إلى صفقة جديدة، ويتبدّى هذا في مشاركة رئيس «سي آي إيه» في المباحثات بتعليمات مباشرة من الرئيس الأميركي، جو بايدن، المعنيّ بالتوصل إلى نتائج».
يدرك المسؤولون الإسرائيليون أنّ ثمن صفقة تبادل الأسرى قد يكون «باهظاً» هذه المرة


وأتى تقرير الصحيفة غداة نشر «حماس» شريط فيديو، اعتبرته الأوساط الإسرائيلية «إرهاباً نفسياً»؛ إذ تضمن هذه المرّة مقطعاً من سفر المزامير، وتحديداً المزمور الحادي والسبعين في التوراة، وفيه ما يبدو أنه مخاطبة للربّ بألا يترك الإنسان في لحظة شيخوخته، فيما ظهر ثلاثة إسرائيليين من كبار السن وهم يخاطبون حكومتهم بألّا تتركهم يشيخون في الأسر. وفي حين رأى ذوو المسنّين في ذلك إشارة جيّدة إلى أن أقرباءهم لا يزالون على قيد الحياة، قدّر مراقبون إسرائيليون أن نشر الفيديو لم يكن عبثاً، وإنما يعبّر عن رغبة الحركة في أن تتضمن الصفقة فئات جديدة، وهو مقترح كانت إسرائيل قد رفضته في الصفقة السابقة.
بالرغم من ذلك، تدرس الحكومة الإسرائيلية، وفقاً للصحيفة، «تقديم تنازلات»، فيما يدرك المسؤولون الإسرائيليون أنّ الثمن قد يكون «باهظاً هذه المرة، فمقابل إفراج حماس عن محتجزين إسرائيليين، قد تتجه إسرائيل إلى الإفراج عن أسرى من ذوي المحكوميات العالية». وبحسب «يديعوت أحرونوت»، فلدى إسرائيل ثلاثة مبادئ أساسية للتفاوض: أولها، أي مفاوضات مع الحركة تكون تحت إطلاق النار؛ وثانيها، أن تستمر الصفقة من حيث توقفت، أي أن إسرائيل لن تتنازل عن استعادة الأسيرات الإسرائيليات المتبقّيات، في حين تؤكد «حماس» أن هؤلاء مجنّدات قيد الخدمة العسكرية، ولا يتمتّعن بالشروط التي انطبقت على النساء المفرج عنهن في الصفقة السابقة؛ وثالثها أن تتم الصفقة وفقاً لمفاتيح واضحة لكل واحدة من الفئات.
وطبقاً لما نقلته الصحيفة عن مصدر سياسي، لم تسمّه، فإن «الأيام القريبة ستكون حاسمة وستتميز بالضغط. الكرة ليست في ملعب إسرائيل، فرئيس الموساد قام بالخطوة (الأولى)، والآن الضغوط ستنتقل من الولايات المتحدة إلى قطر ومن الأخيرة إلى حماس وهو ما سيتطلب عدة أيام».