غزّة | بعد أكثر من ثمانين يوماً من الحرب، والحصار المفروض على مناطق شمال وادي غزة، يعيش أكثر من 500 ألف نسمة صراعاً يومياً على البقاء، بعدما نفد ما تبقّى من طحين ومواد تموينية، وارتفعت أسعار الكميات الشحيحة المتبقّية إلى حدّ يتجاوز القدرة الشرائية حتى لهؤلاء الذين لا يزالون يتعاطون مع أنفسهم إلى اليوم، على أنهم ميسورو الحال. في شوارع مخيم جباليا ومشروع بيت لاهيا، يبدأ الناس، في ساعة مبكرة من صباح كلّ يوم، رحلة الصراع تلك؛ إذ ينتشر الأهالي في الأسواق بحثاً عن أيّ معلبات وطعام، استطاع المغامرون الوصول إليها في الأحياء التي لا تزال تحت وطأة العملية البرية، فيما يكاد ثمّة مفاجأة ما يومياً. مثلاً، فُقدت، قبل أكثر من أسبوع، كلّ أنواع الحمضيات والخضار من السوق، وارتفع سعر كيلو البرتقال إلى 10 شواكل، والبصل الذي فُقد تماماً هو الآخر إلى 25 شيكلاً، والثوم إلى 40 شيكلاً. ثمّ، وعلى نحو مفاجئ، غرق السوق بالليمون والبرتقال، بعدما انسحبت قوات العدو من مناطق زراعية واسعة من بيت حانون وبيت لاهيا، ووصل المواطنون إلى المزارع في رحلات لا تخلو من التغطية والمغامرة، وعادوا بكميات كبيرة من المحصول، إلى جانب ما أفرغوه من بيوتهم المقصوفة من طعام كانوا قد اختزنوه سابقاً.غير أن كلّ ما هو متوافر ممّا سلف ذكره، لا يغير من واقع الأمر شيئاً، إذ يظلّ الجوع والعيش على الحدّ الأدنى من السعرات الحرارية في اليوم هما المشهد السائد. أمّا الطعام الأكثر حضوراً وشعبية، فهو «الكسترد»، أو حلوى الفقراء التي كانت تباع على أبواب مدارس اللاجئين عقب بضع سنوات من النكبة، قبل أن يعود اليوم، لكن ليس كحلوى، إنّما كوجبة رئيسية. أبو كمال، هو واحد من عشرات النازحين الذين وجدوا في هذه المهنة مصدر رزق. نزح الرجل رفقة زوجته وعائلته الممتدّة المكوّنة من 50 فرداً من مدينة بيت لاهيا، تاركين خلفهم كلّ لباس وطعام ومال. اهتدى إلى تلك الفكرة حينما لم تجد زوجته في خيمة الإيواء سوى النشاء والماء لإطعام البطون الجائعة. يقول الرجل: «قرّرنا أن نعدّ الكسترد ونبيعه على الطريق. أعددنا كمية بسيطة في بداية الأمر، لكن فوجئنا بأنها نفدت خلال دقائق. ثمّ قررنا توسيع المشروع البسيط، حيث أعددنا كمية أكبر بكثير، ونفدت هي الأخرى قبل الظهيرة... اليوم، تحوّل الكسترد الذي لا قيمة غذائية حقيقية فيه، إلى وجبة الفطور والغذاء والعشاء الوحيدة التي يُقبل عليها النازحون». أمّا عن العائد المادي، فتؤكد أم كمال أنها تبيع الصحن بنصف شيكل فقط، وأن مجموع الدخل اليومي يسمح لهم بأن يأكلوا ما هو أفضل من «الكسترد» قليلاً، من مثل الفول والأرز، وفي بعض الأحيان الرغيدة معلبات التونة.
على جانب آخر من رصيف المخيم الغارق بمياه الصرف الصحي وأكوام القمامة، يقف أبو جاد على عربة لبيع الفلافل. يتجمع حوله المئات من الأطفال والنساء. يبيع الرجل الفلافل بسعره المعتاد ما قبل الحرب، رغم أنه يتجشّم يومياً عناء البحث عن الحطب، ويقضي وأفراد أسرته ساعات الليل والنهار في طحن الحمص المنقوع يدوياً. يقول الرجل: «تحول الفلافل الذي يأكله الناس من دون خبز، إلى وجبة رئيسية يفطر عليها الآلاف بدلاً من الخبز، لأنه المتاح الوحيد لديهم... لم أرفع السعر، أنا أخدم أبناء شعبي ولا رغبة لدي في جمع المال».
وسط ذلك كله، يترقب الأهالي في شمال القطاع، ما سيؤول إليه مسار التفاوض؛ إذ «ليس بالكسترد والفلافل فقط يحيا الإنسان»، بل ثمة الدواء وحليب الأطفال والمياه الصالحة للشرب والمأمن الكريم ورؤية الأهل المقطوعة أخبارهم منذ أسابيع ودفن الشهداء... كل ما تقدّم أولوية حياة أيضاً.