ابراهيم الأمين
الكل في المأزق. هذه هي العبارة السحرية التي يلجأ إليها من لا يريد التعامل مع الوقائع. أو الكل مسؤول عما يحصل. وهي العبارة الثانية لمن لا يريد توزيعاً عادلاً للمسؤوليات عما نحن فيه. والكل محكوم بالحوار. وهي العبارة الثالثة لمن يريد تجاهل أن القواعد التي اتبعت في الحوارات السابقة لم تعد قائمة الآن، او هو لا يريد تغييرها. أما بقية الكلام فتجد فيه ما يسرك وما يغضبك بحسب هواك السياسي. إلا أن الانقباض القائم في كل الامكنة له مكان واحد للتنفيس، هو الشارع. ولذلك يصوغ كل طرف حساباته في هذا المجال وفق ما يراه مناسباً لوضعيته الحالية وما قد يستجد خلال الايام المقبلة.
عمرو موسى جاء موفداً من المصريين والسعوديين، وهو وإن تحدث عن واجبه كأمين عام للجامعة العربية الا انه اقر بتكليفه مهمة إقناع قوى المعارضة بأنها لا تقدر على تحقيق مطالبها، وأن الشارع لن يزيد من الحصة التي اقترحت عليها. وهو يعرف اصلاً أن عرض السلطة السابق بحكومة لا يملك فيها احد حق الفيتو، عرض قديم وسابق للأحدث ولموعد زيارته. ومع ذلك عاد إليه في سياق ان هذا ما سمعه من فريق السلطة، ثم أفاض في شرح أسباب هؤلاء الذين قالوا له: إن المعارضة تملك القرار في المجلس النيابي ورئاسة الجمهورية رهينة عندها، والحرب الاخيرة مع إسرائيل ثبتت موقعهم الاقليمي، وسلاحهم لم يعد ممكناً نزعه الآن لا بالحرب ولا بالسياسة. وهم يريدون الاستيلاء على الحكومة وإلا فما هو سر تمسكهم وإصرارهم على الثلث المعطل؟
حمل موسى السؤال كما لو انه لا يعرف الوضع على حقيقته. كان يريد ان يسمع الجواب في نسخته الاولى. قال له الرئيس نبيه بري ما قاله له أيضاً وفد حزب الله: “نحن نريد المشاركة في إدارة البلد، وهم لا يريدون الأمر. هذا هو الأمر ببساطة. وإذا كان هناك من يريد اضافة بند آخر فإن الاتفاق عليه واجب. لا مشكلة في موضوع المحكمة الدولية ولكن يحق لنا مناقشة المشروع كما فعل مجلس الأمن نفسه. ولا مجال لبحث الامور وفق طريقتهم”.
رد موسى بكلام عام. وهو لا يملك أصلاً قدرة إضافية غير التي يمنحه إياه الطرف العربي. وتتمحور في نقطة واحدة: اذهب واتفق مع السوريين على صياغة لحل وسطي. وهم يضغطون على جماعتهم ونحن نضغط على جماعتنا. لكن موسى الذي أقر بعدم حصوله على هذا التفويض، نقل مناخاً مختلفاً موجوداً لدى القيادتين السعودية والمصرية. وقال كلاماً فجاً في صراحته: “إنهم يعتبرون ما يجري معركة لتقزيم النفوذ السني في لبنان لمصلحة تحالف شيعي ــ مسيحي. وإن في لبنان قوى تحاول الاستفادة من مبادرة مفترضة لدى سوريا وإيران على خلفية تراجع النفوذ الاميركي في المنطقة”.
لكن المشترك بين ما عرضه موسى وما سمعه من بري ينحصر عملياً في بند واحد من جزءين: تحسين العلاقات السعودية ــــــ السورية وتفكيك ألغام الملف الداخلي وفق ما كان عليه الأمر عند الدعوة الى طاولة التشاور. وقد اتفق الرجلان على آلية تواصل في ما بينهما على أن يقوم كل من جانبه بما يعتقد أنه مفيد في هذا المجال. وقد نقل موسى الافكار الخاصة بإعادة ترتيب العلاقات السورية ــــــ السعودية الى القيادتين السعودية والمصرية، وباشر بري اتصالات من جانبه مع القيادة السورية، لكن أياً منهما لا يقدر على القول الآن إن النتائج صارت جاهزة سلباً أو إيجاباً، علماً بأن البحث في التفاصيل اللبنانية يأخذ أشكالاً اخرى إذا شعر فريق السلطة داخلياً بأنه لا مجال للعودة الى ما كانت عليه الامور قبل نزول المعارضة الى الشارع. وقد سمع موسى تأكيدات بأن قوى المعارضة مستمرة في تحركها وبصورة تصاعدية حتى لو استمر الأمر أسابيع عدة وحتى لو ترافق ذلك مع استفزازات اضافية من جانب فريق السلطة.
أما في ما خص تفاصيل الملف الداخلي فإن المبادرة تأخذ بعين الاعتبار أنه لا مجال لإعادة تأليف حكومة جامعة من دون مشاركة كاملة وفعالة لقوى المعارضة. وهو أمر أقر به أكثر من قطب في فريق السلطة ولا سيما النائب وليد جنبلاط الذي عاد ليكرر عرضه السابق بأن تقدم المعارضة ضمانات حاسمة بشأن مصير المحكمة الدولية مقابل الثلث المعطل، وأن يصار الى فتح مبكر لملف الانتخابات الرئاسية، وهو الأمر الذي يلح عليه “مسيحيو السلطة” رغم إدراكه انه ليس بنداً رئيسياً في محادثات “مسلمي السلطة”.
وتحت هذا العنوان فإن الافكار الجديدة تركز على إيجاد حل سريع لملف المحكمة الدولية بما يسمح بإنتاج وضعية تساعد على إنجاح مؤتمر باريس ــ3 ثم العودة الى ملف الحكومة على قاعدة “التوفيق” بين مطلب المعارضة بثلث معطل ومطلب الفريق الآخر بضمانات عدم إطاحة الحكومة. على ان يصار بعد ذلك الى توفير المناخ لإجراء انتخابات رئاسية ترافق إعداد قانون جديد للانتخابات يتيح إجراء انتخابات نيابية مبكرة. وعرض المعارضة ينحصر في إجراء انتخابات نيابية مبكرة تليها انتخابات رئاسية وتعيين حكومة جديدة، بينما يقول فريق السلطة إنه يقبل ببقاء لحود حتى نهاية عهده ولا داعي لانتخابات نيابية مبكرة، وأن يصار الى انتخاب رئيس لا يقوم بعمله الآن، علماً بأن المعارضة ترفض هذا الاقتراح لجملة أسباب منها ان المجلس الحالي يريد انتخاب رئيس من فريق السلطة ولا يكون ممثلاً للاغلبية المسيحية، وان رئيساً جديداً ولو من دون صلاحيات سوف تعوّمه القوى الداخلية والخارجية وسوف يجري التعامل مع لحود على انه رئيس من دون صلاحيات. عدا عن ان المعارضة لا تعرف سبب رفض السلطة إجراء انتخابات نيابية مبكرة علماً بأن الفريق يقول انه يمثل الاكثرية بين اللبنانيين. علماً بأن مشكلة فريق السلطة في ما خص البند الرئاسي هي استمرار الخلاف في ما بين اركانه حول هوية المرشح المفترض لها لهذه الانتخابات. وهو ما لمسه بري من مجموعة اقطاب من فريق السلطة خلال مداولات الاسبوع الماضي. كما لمس موسى الامر نفسه في هذه المداولات. بينما وجد ما يشبه الاجماع لدى قوى المعارضة على دعم ترشيح العماد عون للرئاسة الاولى.
على ان ذلك لا يلغي حقيقة أن الاحتقان في الشارع يلامس حدود الاختناق. وثمة كلام يردده الناس في الأحياء والأزقة يشير الى احتمال حصول انفجار كبير. وإذا كان الكل يقر باستحالة عودة البلاد الى مناخ الحرب الاهلية بمعناها العسكري التقليدي، فإن الخوف المزروع عند الجمهور من شأنه تعطيل البلاد بفتنة أشد قتلاً من الحرب نفسها.