يشهد السودانيّ راشد دياب (1957) على صمود الفنان في مواجهة الصعاب والشدائد عبر لوحاته المعلّقة في «غاليري برّاق نعماني» حتى الثلاثين من الجاري. تحت عنوان «موسم الهجرة المرّة»، يستلهم الفنان عنوان رواية الكاتب السوداني المعروف الطيّب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) ذات الانتشار والشهرة الكبيرين. عقب هربه من السودان بسبب الحرب، يحتفي دياب بالحياة ويدعو إلى نبذ الحرب بالفن والثقافة من خلال تصويره يوميات المعاناة والنزوح والهجرة وحالة الهلع الجماعيّ في بلده المنكوب بالصراعات والانقلابات المتتالية والانقسامات وعدم الاستقرار. يضمّ المعرض مجموعة للفنّان الذي طالت المعارك الجارية هناك حتى الساعة بيته ومحترفه في الخرطوم، ليخرج صفر اليدين، ما خلا بعض أوراقه وقماشات ملوّنة لطّخها غبار الدمار. سبع وعشرون لوحة بتقنية الأكريليك على ورق وقماش يصفها كتيّب المعرض بأنّها «تعكس الفنان المدهش، حيث تتشابك المشاعر والقصص والرؤى، وفيها الأمل إزاء فوضى الحرب».
«هجرة» (أكريليك على كانفاس ـــ 80 × 80 سنتم)

في لوحات دياب ظلال كثيرة لنساء يسرن فوق رمال الصحراء حاملات أمتعتهنّ. المشهد كأنّه صورة داخل صورة، أو تكوين ضمن تكوين. تتماهى شخوص لوحاته مع البيئة المحيطة التي يتعمّد دياب إظهارها متقشّفة، شبه خالية من التفاصيل، كي يجذب العين إلى الحضور الإنسانيّ الذي يتحرّك كالسراب وسط الصحراء. معظم نساء اللوحات يُدِرْنَ ظهورهنّ لإيصال فكرة الرحيل. نحن أمام سرد بصريّ لموضوع الهجرة بأسلوب إيمائيّ وتقطيع للمشهد المتكرّر لنساء تائهات وسط الرمال، يسرن منفردات فيُشعرننا بصدى الوحدة والعزلة وسط الفراغ المهيمن. ثمة إحساس طاغٍ بالضياع في الزمان والمكان، فلا أرض ولا سماء بل مجرّد سراب صحراوي.
لطالما شكّلت المرأة مصدر إلهام لراشد دياب، مؤكداً على ذلك بقوله: «المرأة تمثّل أساس الحياة والمجتمع، والنساء اللواتي أرسمهنّ بالزيّ السوداني هنّ رموز ملهمة لأعمالي تشير إلى حقيقتنا الذاتية. إنّهن يهبن معنى أعمق من فهمنا السطحيّ لوظيفتهنّ حين أرسمهنّ. لا أسعى إلى توضيح مفهوم ما بقدر ما أحاول التقاط المعنى بعد انتهائي من اللوحة».
علاقة راشد دياب بالشكل الإنسانيّ في اللوحة تتحوّل، مع الوقت، إلى لغة تعبير صُوَريّة تتّسم بالسرعة والبداهة، سواء كان هذا الشكل مستلهماً من راهن السودان أو ماضيه أو طبيعته وبيئة عيشه. ثمة عمق إنسانيّ في لوحاته يتبدّى من خلال الرموز والإشارات والتراث. وقد عاش فترة في إسبانيا حيث لازمته وجوه ناس بلاده وأهله (أمّه ووالده وأخته). استبدّ به الحنين إلى الجماعة وعاداتها ومناسباتها وطقوسها، مستخدماً التصاميم الحروفية والزخرفية من التراث الإسلامي. أتت في المرحلة الثانية تقنيات اللون المكتسبة من الإرث النهضويّ الغربيّ فأنجز سلسلة تحت عنوان «ذكريات الطير المهاجر» (الهجرة تيمة وقدر).
يوميات المعاناة والنزوح والهلع الجماعيّ في بلده المنكوب بالصراعات

والبيئة المشمسة في شمال السودان، مسقط رأسه، تبعث شعوراً بالدفء والصفاء والألفة. أمّا المرحلة الثالثة التي امتدّت حتى مطلع التسعينيّات، فحملت عناوين مثل «الفردوس» و«المساحة الحمراء» وكانت الأكثر تجريداً ومغامرةً وغوصاً في مزايا اللون وطبقاته، كأنّها رحلات خياليّة مفعمة بالرموز المستمدّة من الزخرف الشرقيّ والأساطير. منذ ذلك الحين، يطغى حضور النساء في لوحاته عند بوابات مشرّعة على نور عميق وسط الضباب، وقامات نسائه مؤسلبة مثل أطياف وسط فراغ لونيّ مأهول بالطلاسم والكتابات. يرسم حركة الثوب الفضفاض على جسد المرأة.
في معرضه البيروتيّ، يسرد حكايات النزوح، موقظاً الذكريات البعيدة النائمة في ضمير الجماعة، تحت سحب ملوّنة يتسلّل منها الضوء وتتكسّر الظلال وتشعّ الألوان.

* «موسم الهجرة المرة»: حتى 30 حزيران (يونيو) ـــ «غاليري برّاق نعماني» (الحمرا) ــــ للاستعلام: 71/358205