لا شكّ في أن أزمة الكهرباء التي تعيشها غالبيّة محافظات مصر غير مسبوقة خلال السنوات العشر الأخيرة، وبالتالي فتعامل العديد من الإعلاميين معها أيضاً غير مسبوق. إذ تعالت الأصوات التي تنتقد الوضع وتهاجم أجهزة الدولة، عكس ما كان معتاداً منذ سيطرة أجهزة الرئيس عبد الفتاح السيسي على منظومة الإعلام في المحروسة، إذ كانت الانتقادات معدومة والتبرير وحده هو المتاح. ثلاثة من أهم الإعلاميين في مصر ممن كانوا نجوماً حتى قبل ثورة يناير، خرجوا عن طوعهم في ما يتعلّق بتغطية أزمة الكهرباء التي دخلت أسبوعها الثاني. صحيح أن أحدهم وهو عمرو أديب محسوب على السعودية كونه يقدّم برنامج «الحكاية» على قناة «mbc مصر»، لكنه يواصل رفع سقف الانتقادات وعدم مسك العصا من المنتصف، كما كان يفعل سابقاً. أما أحمد موسى مقدّم برنامج «على مسئوليتي» على قناة «صدى البلد»، فسار على نهجه المعتاد حيث التبرير المعلن والنقد المبطّن. المفاجأة الكبرى كانت من لميس الحديدي مقدّمة برنامج «كلمة أخيرة» على قناة «أون» التابعة لـ «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية»، إذ كرّرت انتقادها للأزمة سواء عبر الشاشة أو من خلال حسابها على تويتر. كان معتاداً في السنوات الماضية إمّا صمت مقدّمي البرامج في الأزمات الكبرى، وكانت التعليمات تتوزّع على كلّ المسؤولين في القنوات بعدم طرح الأزمة للنقاش، أو الالتزام بالبيان الرسمي وتوزيع أسماء شخصيات لإجراء مداخلات هاتفية لتخفيف حدّة الأزمة، إلى درجة أنه في حال عدم توافر أيّ من تلك الشخصيات وقت الهواء، يحظّر على معدّي البرامج الاتصال بأيّ مصدر خارج القائمة. بالطبع، كان صوت الجمهور محجوباً، ولا مجال للاستماع إلى شكاوى الناس أو تعليقاتهم واقتراحاتهم. لكن أحمد موسى خالف ذلك بوضوح في أزمة انقطاع الكهرباء الحالية. إذ نزلت كاميرا برنامجه «صدى البلد» إلى أكثر من منطقة، وسألت الناس عن عدد مرات انقطاع الكهرباء يومياً. كان المراسل حريصاً على معرفة اسم المنطقة، ليمتدّ التقرير قرابة خمس دقائق، وينتهي بخلاصة أنّ الأزمة طالت معظم المناطق في إقليم القاهرة الكبرى، حيث المحافظات الثلاثة، العاصمة والجيزة والقليوبية. أمر يؤكّد تغيّراً واضحاً في سياسة قناة «صدى البلد». مع العلم أن مالكها محمد أبو العينين يتبوأ رسمياً منصب وكيل مجلس النواب الموالي بالكامل للنظام القائم.صحيح أنّ باقي فقرات برنامج «على مسؤوليتي» قدّمت تبريرات للأزمة المستفحلة، لكن مع عبارات من بينها «مش كنا خلصنا من الموضوع ده»، و«من حق المواطن يزعل»، و«الكهرباء موجودة في الساحل الشمالي والعلمين». العبارة الأخيرة ركّزت عليها أيضاً لميس الحديدي في تغطيتها للأزمة. قالت بوضوح إن قطع الكهرباء في محافظات الصعيد وصل إلى ستّ ساعات متتالية، بينما لم تلاحظ غيابها في قرى الساحل الشمالي. هذا «التسخين» الذي يبدو طبقيّاً وغير معتاد، يعرف العالمون ببواطن الأمور أنه غير موجّه إلى مالكي الشاليهات في قرى الساحل الشمالي، إنما إلى «مهرجان العلمين» الذي تتجه الأنظار إليه حالياً، في إشارة واضحة إلى أن النظام الحالي يفضّل مشاريعه الأحدث على باقي مناطق الجمهورية ومحافظاتها.
تلك التسريبات تعدّ واحداً من ثلاثة سيناريوهات تداولها الناس بعد اشتعال الأزمة. الأول هو سيناريو الحكومة الذي يقول بأنّ انقطاع الكهرباء سببه تأثير الحرّ الشديد على محطات التوليد، وأن قطع الكهرباء يهدف إلى حمايتها من الانفجار. لكن السيناريو لم يصمد طويلاً، إذ فرض سيناريو آخر نفسه، ودعمه بقوة عمرو أديب في برنامجه «الحكاية»، هو أنّ القطع يهدف إلى توفير الغاز لتصديره إلى أوروبا لتعويض نقص الدولار في مصر. ركز أديب في تغطيته على أهمية مصارحة الناس بما جرى، ملمّحاً إلى أن وزارتَي الكهرباء والبترول لا تقولان الحقيقة وأن شخصاً ما يجب أن يتدخّل للتنسيق بينهما، في إشارة إلى الحاضر الغائب في الأزمة، وهو رأس النظام الذي لم يصدر عنه أيّ تعليق.
وزاد الطين بلّة، صدور بيان غير مفهوم من شركة الكهرباء الرئيسية في مصر حول مواعيد انقطاع الكهرباء، ليوجه الإعلاميّون الثلاثة مساء أول من أمس الأحد، انتقادات حادّة للبيان، تأكيداً أن سياسة الانتقادات التي بدأت نهاية الأسبوع الماضي مستمرة. كما أن تمرّد الثلاثي على قبضة النظام ربما يكون بداية لاستعادة الفضاء المصري، هامشاً من حريته المسلوبة. إلا إذا كانت جعبة الرئيس المصري تحمل مفاجأة جديدة وغير سارة لمناصري حرية الإعلام.