منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، أثبتت ذراع البروباغندا التابعة لآلة الحرب الصهيونية فشلها في معركة الرأي العام العالمي، واستدراج الاستعطاف لمصلحة كيان الاحتلال، وكشفت، مع توالي أيام الحرب، عن ترهّلها الكبير وبدائيتها في نسج الأكاذيب والتضليل والشائعات. السبب عاد بشكل أساسي إلى رداءة الأكاذيب وسخافتها، ما سهّل افتضاحها، وأبرز الأمثلة عليها زعم أنّ المقاومين قطعوا رؤوس 40 طفلاً من دون جزء من دليل (لكنّ هذا الخبر مهّد للإبادة الإسرائيلية بحقّ غزة)، وأكذوبة غرفة عمليّات «حماس» تحت «مستشفى الشفاء» التي فضحها جيش الاحتلال بفيديواته المثيرة للسخرية وحوّل نفسه إلى أضحوكة، واستخدام صور مُنتَجة عن طريق الذكاء الاصطناعي بصفتها دلائل قاطعة، وغيرها الكثير من الأكاذيب التي روّج لها الإعلام الغربي المتأسرِل، وكانت تُفضح كلّ يوم بفضل مواقع التواصل الاجتماعي.
أكذوبة غرفة عمليّات «حماس» تحت «مستشفى الشفاء» حوّلت قوات الاحتلال إلى أضحوكة (محمد سباعنة ـ فلسطين)

هذه الحال دفعت الإعلام الغربي، وهو بغالبيّته صهيوني الهوى، إلى التخبّط لإيجاد مخارج تبرّر انحيازه لمصلحة كيان الاحتلال وإكمال البروباغندا الحربية التي تبرّر العدوان الهمجي على قطاع غزّة المحاصَر واستهداف مدنيّيه، كما تمّ تبرير الاعتداءات الصهيونية على لبنان وغزو العراق وقصف سوريا وليبيا واجتياح فيتنام وغيرها الكثير من الحروب العبثية الأميركية والصهيونية على الإنسانية، وتبيّن زيفها جميعها مع الوقت، بعدما كان قد فات الأوان وخسر ملايين الأبرياء أرواحهم. هذا التخبّط الذي يعانيه الإعلام الغربي، انعكس انتقاداً لكيان الاحتلال، لكن من زاوية «العتب» و«تصحيح الأخطاء» لا أكثر، وإظهاراً للمنظور الفلسطيني، لكن مع تحريف هائل وصل حدّ التغيير في ترجمة كلام قاله فلسطينيّون. لكن بعد عمليّات تبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية وقوّات الاحتلال وظهور المعاملة الجيّدة التي تلقّاها المحتجزون الإسرائيليّون ووداع المقاومين وهم يبتسمون، في مقابل آثار التعب والتعذيب التي تظهر على وجوه الأسرى الفلسطينيّين وكلامهم عن الأحوال اللاإنسانية التي فرضها عليهم الاحتلال في سجونه، كان لا بدّ للإعلام الغربي من أن «يكشّر عن أنيابه»، ومن هنا بدأ علك اتّهام «الاغتصاب» الباطل في محاولة يائسة للمّ الشمل. المفارقة المضحكة أنّ ترويج هذه الشائعة يعكس الرؤية الاستعمارية ونظرتها الاستشراقية التي فنّدها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، بصفة الشرقيين «همج» و«ذوي غرائز متفلّتة» ما يمهّد لنزع الأنسنة عنهم وغزوهم واستعمارهم.
هكذا، أمعنت وسائل إعلام وصحافيّون في الغرب في الأيّام الماضية، في اتّهام «حماس» بأنّها «اغتصبت نساء إسرائيليّات». وكان واضحاً ــــ في التفاتتهم المفاجئة هذه ــــ بأنّهم يقودون معزوفة وحملة ممنهجة بقائد أوركسترا واحد ينسّق الأدوار، ما دفع «حماس» إلى إصدار بيان ينفي كلّ هذه المزاعم. اللافت أيضاً أنّ هذا الاتّهام لا يشذّ عن القاعدة التي لطالما اعتمدتها «إسرائيل» في اتّهام أعدائها بأفعال ارتكبتها هي بهدف التّعمية على جرائمها، فسِجلّ العدوّ في اغتصاب النساء الفلسطينيّات معروف وموثّق ولا يزال يحصل في لحظتنا هذه بحقّ الأسيرات في سجونه. ولا ننسى هنا أنّ «الحاخام الأكبر» لقوات الاحتلال الجنرال آيال كريم «أفتى» بجواز اغتصاب الجنود للفلسطينيات أثناء الحرب.
من الوسائل الإعلامية المشاركة في الحملة كانت ـــ بالطبع ـــ قناة CNN الأميركية، التي بثّت في نشرات أخبارها تقارير تُعيد علك الفبركات الصهيونية لأوقات طويلة. كما انتشر على منصّات التواصل مقطع من مقابلة مع النائبة الديموقراطية براميلا دجيابال أجرتها مذيعة القناة دانا باش، تُعيد فيه الأخيرة علك سرديّات الاحتلال حول ما حدث في 7 تشرين الأوّل، بما فيها تقارير مزعومة حول ارتكاب مقاتلي «حماس» جرائم الاغتصاب، فتردّ دجيابال بأنّها أدانت «حماس» سابقاً، لكنّ الجرائم لا تبرّر الجرائم (في إشارة إلى ما تقوم به «إسرائيل»)، وهو ما لم يعجب المذيعة التي قاطعت ضيفتها بوقاحة لتعيّرها على «قلب الأمر على «إسرائيل». هنا، تلفت دجيابال إلى «التوازن» في الردّ (هو أساساً تعبير مجرّد من الإنسانية لكنّه شاع في الغرب) وتستعرض ما يقوم به الاحتلال بحقّ غزّة وسكّانها، فلا تجد المذيعة ردّاً سوى «نعم، إنّ ذلك فظيع، لكنّك لا تجدين جنوداً إسرائيليّين يغتصبون نساءً فلسطينيّات»! بهذه البساطة، وفي جملة واحدة، كذبت مذيعة CNN بشأن أمرَين، وقاطعت ضيفتها وحرّفت كلامها، وجرّدت الفلسطينيّين من الإنسانية، ولم يرفّ لها جفن! على مقلب آخر، كانت قناة Fox News الأميركية التي تُعتبر خصمة لـCNN، تثبت ألّا فارق بين القناتَين في ما يتعلّق بالتصهين، بل إنّهما تتنافسان في إثبات صهيونيّتهما. هاجمت Fox News دجيابال، مستغلّةً لغرضها تصريحات لنوّاب من حزب دجيابال رفضوا مواقف زميلتهم حول «الطرفَين». ويمكن استشمام إعجاب Fox News بأداء مذيعة زميلتها.
أمّا صحيفة «نيويورك بوست» الأميركية، فنشرت تقريراً يدّعي «ظهور قصص جديدة حول عمليات اغتصاب ارتكبتها «حماس»، بما فيها الاعتداء على امرأة بوجه ملاك صرخت لتُقتل»! لم تعطِ الصحيفة في تقريرها أيّ دلائل سوى ما تزعم أنّه قاله لها مستوطنان صهيونيّان، فادّعى أحدهما بأنّ المرأة أرادت أن تُقتل بسبب «اغتصابها من 8 إلى 10 مقاتلين من «حماس» كانوا يضحكون قبل أن يطلق أحدهم النار عليها ويرديها»! وأكمل المستوطن ذاته زاعماً أنّه رأى مقاتلَين آخرَين يقطعون رأس فتاة! وإذا كان ما سبق مثيراً للسخرية ولا يمكن تصديقه بسبب منافاته للمنطق، فإنّ صحيفة «ديلي ميل» البريطانية تفوّقت على كلّ زميلاتها، إذ عنوَنت: ««حماس» اغتصبت رجالاً كما النساء»! طبعاً، لا تكتمل أكذوبة صهيونية من دون صور مفبركة أو مسروقة من أحداث سابقة في مناطق مغايرة من العالم، فكان نشر رئيسة اللجنة الاستقصائية التي شكّلتها «إسرائيل» للتحقيق في جرائم اغتصاب مفترضة في السابع من تشرين الأوّل، كوشاف الكايام-ليفي (Cochav Elkayam-Levy)، صورةً قديمة لمقاتلات كرديّات ميّتات، زاعمةً أنّها جثث نساء اغتُصبن في موقع مهرجان «سوبر نوفا» الموسيقي الذي كان يُقام على مقربة من قطاع غزّة في يوم عملية «طوفان الأقصى». وأشار الصحافي ماكس بلومنتال إلى أنّ الصورة كانت «إسرائيل» قد استخدمتها في الموقع الإلكتروني الذي أقامته باسم «حماس» قبل أن يفضح أمرها هو، فأزيلت من الموقع من دون إيراد أيّ تفاصيل.
نشر صورة قديمة لمقاتلات كرديّات ميّتات، والادعاء بأنّها جثث نساء اغتُصبن في موقع مهرجان «سوبر نوفا»


فورة الأكاذيب هذه سرعان ما ردّت عليها «حماس» في بيان، فأكّدت على «رفض أكاذيب الاحتلال عن حالات اغتصاب، التي تهدف إلى تشويه المقاومة، والتغطية على صورة تعاملها الإنساني والأخلاقي مع المحتجزين»، وأضافت: «نرفض ونستنكر بشدة تساوق بعض وسائل الإعلام الغربية مع الحملات الصهيونية المضلِّلة التي تروّج لأكاذيب وادّعاءات لا أساس لها من الصحة، هدفها شيطنة المقاومة الفلسطينية، وآخرها الزعم بارتكاب عناصر المقاومة «العنف الجنسي» أثناء معركة «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر. نعدّ هذه الحملة المضلِّلة جزءاً من سلسلة الأكاذيب التي تروّجها ماكينة الدعاية الصهيونية، التي ظهر كذب ادّعاءاتها، ولا سيّما فرية قطع رؤوس الأطفال، واستهداف المحتفلين في الحفلة الموسيقية في مستوطنة ريعيم، وليس آخرها كذبة استخدام مستشفى «الشفاء» الطبي لأغراض عسكرية». وأضاف البيان: «يسعى الاحتلال الصهيوني النازي لبثّ الشائعات والأكاذيب على المقاومة في محاولة يائسة منه للتغطية على الصورة التي شاهدها العالم للتعامل الإنساني والأخلاقي مع المحتجَزين وحسن رعايتهم، من رجال المقاومة، التي شهد بها عدد من المحتجزين المفرج عنهم، رغم محاولات الاحتلال التغطية والتعتيم على ذلك. ندعو كل وسائل الإعلام والوكالات إلى الحذر من السقوط في شرك أكاذيب الاحتلال ودعايته المغرضة، وإلى التحقق من كلّ معلومة، حمايةً للحقيقة وصوناً لقدسية الرسالة الإعلامية».
رغم توجّهه إلى الإعلام الغربي ووضعه النقاط على الحروف، إلّا أنّ بيان «حماس» كان كمَن يصرخ في أذن «الأطرش في الزفّة». فهذا إعلام يجاهر بصهيونيّته، مشكلته ليست «الحذر» من عدمه. إذا كانت أخطاؤه غير متعمّدة حقّاً، فهي تُسقط كلّ ادّعاءاته حول توخّي الدقّة في تحديد المصادر وإقامته ورش العمل في أنحاء المعمورة شتّى نشراً لـ«تعاليمه» هذه، وهي مصيبة. أمّا إذا كانت «أخطاؤه» متعمّدة، وهو يدرك بأنّه يكذب دعماً لإبادة جماعية تُرتكب اليوم في هذه اللحظة، وهذه الحال فعلاً، فتلك مصيبة أكبر. من الأجدى دعوة الناس إلى عدم تصديق هذه المزابل الإعلامية التي تعيد تدوير ما يرميه فيها الصهاينة وتعلّبها في قالب صحافي، ومقاطعتها لنزع قدرتها على التأثير، ولتذهب إلى جحيم التاريخ!