حتى عام 1990، كانت مقاطعة ناغورنو قره باغ، ذات الغالبية الأرمينية، منطقة حكم ذاتي تابعة لجمهورية آذربيجان السوفياتية، إلى أن أعلنت، بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي، استقلالها عن باكو، في موازاة تقدُّم المقاتلين الأرمن - بدعم من الجيش الأرميني - للسيطرة على أجزاء تقع شرقي قره باغ، كما كامل المنطقة الفاصلة بين أرمينيا والمقاطعة، والتي تُعدّ، وفق القانون الدولي، أرضاً آذربيجانية. واستمرّ الوضع على حاله حتى عام 2020، عندما شنّت آذربيجان، بدعمٍ من تركيا، "الحرب الوطنية الكبرى" في الـ 27 من أيلول، والتي استمرّت 44 يوماً، وانتهت إلى تراجع القوات الأرمينية عن كامل المناطق التي سيطرت عليها إبّان تفكّك الاتحاد السوفياتي، فيما بسطت باكو سيطرتها على النصف الشمالي من قره باغ، وبقي النصف الجنوبي (عاصمته ستيباناكرت)، بضغط من روسيا، بيد الأرمن، مع الإبقاء على ممرّ واحد يصل المقاطعة بأرمينيا، هو "ممرّ لاتشين".وحتى عام 2020، ظلّت روسيا تَنظر إلى الوضع في القوقاز الجنوبي، على النحو الآتي: آذربيجان دولة جنوبية كبيرة وغنية بالطاقة، ومع أنها غربية الهوى، فإن من مصلحة موسكو عدم دفعها إلى أن تكون عدوّاً، بل يَجدر أن تبقى جاراً لها معه علاقات اقتصادية وتسليحية قوية. وعلى رغم أن معاهدة دفاع مشترك كانت تربط أرمينيا بروسيا، غير أن وصول حكومة غربية الهوى، بزعامة نيكول باشينيان، إلى السلطة في يريفان عام 2018، أثار انزعاج الروس، الذين امتنعوا، لدى نشوب الحرب الأرمينية - الآذربيجانية، عن تطبيق معاهدة الدفاع المشترك، على اعتبار أن الأخيرة تشمل أراضي أرمينيا الرسمية، فيما المعارك تدور على أراضٍ تابعة لآذربيجان. مع هذا، أمسكت موسكو بطرف الخيط، من خلال تولّي الحرس الروسي مهمّة الإشراف على الخطّ الحدودي الفاصل بين القوات الآذربيجانية وتلك الأرمينية، وعلى "ممرّ لاتشين"، وقره باغ الجنوبية، كما كان سيشرف على "ممرّ زينغيزور" بين نخجوان وآذربيجان لدى بدء العمل به.
وكانت روسيا تسعى، من وراء امتناعها عن دعم الأرمن، إلى "تأديب" باشينيان بسبب ميوله الغربية، آملةً أن تدفع الهزيمة هذا الأخير إلى الخروج من السلطة، علّ سلطة موالية لها تحلّ محلّه. غير أن الرهان الروسي لم يتحقَّق، ونجح باشينيان، على رغم الهزيمة المدوّية، في الفوز بالانتخابات المبكرة التي حصلت في 20 حزيران 2021. وممّا زاد الوضع تأزُّماً بين روسيا وأرمينيا، إعلان الأخيرة المشاركة في مناورات عسكرية مع الولايات المتحدة انطلقت يوم أمس، على أن تستمرّ لغاية الـ 20 من الجاري. وعلى هذه الخلفية، استدعت موسكو سفير يريفان لديها، فاغارشاك هاروتونيان، وسلّمته مذكّرة احتجاج، فيما اتهم نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل غلوزين، "الناتو"، بإثارة النزاعات في منطقة القوقاز الجنوبي، مبدياً ثقته بأن "الشعب الأرميني لن يسمح بجرّ بلاده إلى توتّرات معادية لروسيا". وأعقب ذلك إعلان الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أن هذه المناورات لا تَخدم الاستقرار في القوقاز. وكان رئيس لجنة توسيع الاتحاد الأوروبي في "الناتو"، غونتر فيهلينغر، قد دعا إلى ضمّ أرمينيا الى الحلف، ليردّ نائب وزير الخارجية الأرميني، فاهان كوستانيان، بأن بلاده مستعدّة لعملية الانضمام، فردّت روسيا على تصريحات فيهلينغر، مذكّرةً إيّاه بأن أرمينيا عضو في "منظمة اتفاقية الأمن الجماعي".
تبدو رهانات باشينيان على دور أميركي فاعل مؤيّد لأرمينيا في غير محلّها


ومع أن يريفان امتنعت، العام الماضي، عن المشاركة في مثل هذه المناورات، إلا أنّ قرارها المشاركة السنة الحالية، وعلى أراضيها، فتح باب السجال مع موسكو، ولا سيما أن باشينيان كان قد أدلى بتصريح قال فيه إن ارتباط بلاده بروسيا باعتبارها "ضامناً أمنياً" كان "خطأً استراتيجيّاً"، لأن الأخيرة لم تقف عند تعهّداتها، ولم تَمنع إغلاق "ممر لاتشين"، ولا وفّرت الحماية لقره باغ الجنوبية. وأضاف إن "روسيا إمّا أنها لا تستطيع مراقبة ممرّ لاتشين، وإمّا أنها لا تريد ذلك. وهذا بالنسبة إلينا مشكلة كبيرة". وفي الخامس من الجاري، لفت باشينيان، في مقابلة تلفزيونية، ردّاً على سؤال حول عدم فتح روسيا الممرّ المذكور، إلى أن موسكو "أساساً تغادر المنطقة"، متابعاً أنها "موجودة منذ وقت طويل في جنوب القوقاز، ولا بد سيأتي يوم، خلال شهر أو سنة وتترك المنطقة". وردّ بيسكوف على باشينيان بالقول إن روسيا "جزء لا يتجزّأ من المنطقة، ولن تغادرها مطلقاً. وهي تواصل دورها الضامن للأمن والاستقرار في ناغورنو قره باغ". على أن التوتّر الحالي ليس جديداً؛ فغالباً ما كان الجيشان الآذربيجاني والأرميني يدخلان في اشتباكات عسكرية على جانبَي الحدود، وآخرها في مطلع الشهر الجاري في منطقتَي زود وكيلبيجير، حيث سقط قتلى وجرحى من الجانبَين. لكن التوتّر الحالي بسبب المناورات الأرمينية - الأميركية يؤشّر إلى بداية مرحلة جديدة من الكباش الأميركي - الروسي، ومسرحه القوقاز الجنوبي. وفي هذا الإطار، يَذكر سرتاتش إش، في "جمهورييات"، أن قلق روسيا هو من محاولات أميركا والغرب التدخُّل في شؤون المنطقة، معتبراً أنه "ما لم تُحلّ المشكلات الثنائية بين آذربيجان وأرمينيا، فإن المشكلات ستزداد بين الغرب وروسيا وبين أرمينيا وروسيا".
وتبدو رهانات باشينيان على دور أميركي فاعل مؤيّد لأرمينيا في غير محلّها؛ فقد التزمت موسكو الدفاع عن يريفان والحفاظ على الوضع كما هو حين كانت فيها سلطة موالية لموسكو، أو على مسافة نسبية من الغرب. ولكن الوضع تغيّر عندما جاءت سلطة معادية لروسيا بزعامة باشينيان. والآن، عندما ينوي هذا الأخير القيام بمناورات مشتركة مع أميركا، إنّما يستفزّ روسيا، من دون أن يربح رهان استعادة قره باغ، لأن الولايات المتحدة، في المقابل، معنيّة أكثر ببقاء آذربيجان حليفة قوية لها ولإسرائيل، فيما لا تهدف سوى إلى استفزاز روسيا وإرباكها في جبهة جديدة، بعد أوكرانيا، مستخدمةً باشينيان أداةً لها في هذا التوتّر الذي لن تخرج منه يريفان رابحة، بل بالكاد ستبقي على بعض الأرمن في ناغورنو قره باغ، بعدما رحل عن قسمها الشمالي كلّ الأرمن، فيما ينحسر عدد سكان القسم الجنوبي والذي بالكاد يناهز أصلاً المئة ألف نسمة. كما لا يجب، هنا، إغفال حقيقة، أن اعتراف الرئيس الأميركي، جو بايدن، بالإبادة الأرمينية للعام الثاني على التوالي، لم يُعِد متراً واحداً من الأراضي التي خسرتها أرمينيا في حرب الـ 44 يوماً.
ويحيل الكاتب الأرميني، فيكين شيتيريان، جانباً من التوتّر في القوقاز، إلى عوامل داخلية آذربيجانية؛ إذ يقول، في مقالة في صحيفة "آغوس" الأرمينية الصادرة في إسطنبول باللغة التركية، إن الرئيس الآذربيجاني، إلهام علييف، يوتّر الوضع مع أرمينيا من وقت إلى آخر ليديم مشروعية لاستمراره في السلطة، ويقمع المعارضة التي تتّهمه بالاستبداد، مبقياً الاستنفار قائماً تمهيداً لحرب جديدة يكمل فيها الجيش الآذربيجاني السيطرة على "آذربيجان الغربية"، أي الأراضي التي تقع فيها حالياً جمهورية أرمينيا. ويلفت شيتيريان إلى أن العديد من زعماء المعارضة الآذربيجانية قد زُجّ بهم أخيراً في السجن، ومنهم شائق كاظموف، وصبوحي سليموف، وخبير الاقتصاد غوباد عباد أوغلو، و"الذين يمارسون شعائرهم الدينية من الشيعة يتعرّضون لمضايقات كثيرة واعتقل الكثير منهم". وعلى رغم أن دين الدولة هو الإسلام الشيعي، غير أن علييف يَشتبه في وجود روابط لمواطنيه الشيعة مع إيران، وفق الكاتب.
في المقابل، يحذّر الكاتب ندرت إرسانيل، في صحيفة "يني شفق" الموالية، من أن تكون منطقة القوقاز تتّجه نحو حرب آذربيجانية - أرمينية ثانية. ويقول إن ثمّة إشارات لافتة في العلاقات بين آذربيجان وأرمينيا، منها انسحاب الأخيرة، في مطلع العام الجاري، من مناورات مشتركة في إطار "اتفاقية التعاون العسكري الجماعية" التي تتزعّمها روسيا، ومن ثمّ إعلان مشاركتها في مناورات مشتركة مع أميركا، كما أن باكو أرسلت، خلال الأيام الماضية، المزيد من التعزيزات العسكرية إلى الحدود مع أرمينيا وإلى منطقة "ممر زينغيزور" على الحدود مع إيران. ووفق إرسانيل، فإن "تعزيز العلاقات الأميركية - الأرمينية يعني تعزيز مخاطر انفجار حرب بين باكو ويريفان"، مبيّناً أن "أميركا تريد تكبيل يد روسيا في القوقاز، فتردّ روسيا في دير الزور لإشغال أميركا. كما أن بايدن يريد أن يكسب ولاء الأرمن في الولايات المتحدة في سنة الانتخابات". ويتطرّق الكاتب أيضاً إلى موقف طهران، ليلفت إلى أنها "ستصطفّ إلى جانب الأرمن في أيّ حرب مقبلة، وهو ما يتعارض مع موقف بوتين. وهذا ربّما فخ تنصبه أميركا وإنكلترا لإيران". أمّا تركيا، فستقف بالتأكيد إلى جانب آذربيجان في أيّ حرب مقبلة، وهو ما سيترك أثراً على العلاقات التركية - الأميركية. وفي هذا السياق تحديداً، شنّت صحيفة "يني شفق" هجوماً لاذعاً على إيران، واتّهمتها بأنها تدعم باشينيان وتقف بالتالي في الصف نفسه مع الولايات المتحدة.