«ولا شي، بنزل على النظارة وبطقّ حنك معهم»، يقول أحد الأحداث البالغ من العمر 17 عاماً في الجلسة العلاجية الأولى مع متدرّب من قسم علم النفس في فرع الأحداث داخل سجن رومية. لا علامات قلق على الشاب الموقوف منذ أربعة أشهر بتهمة سرقة دراجات نارية، رغم أن الحكم عليه سيصدر في اليوم التالي. على العكس من ذلك، بدا مرتاحاً، ومتحمّساً لخوض تجربة العلاج النفسي، ومستعداً للإجابة عن الأسئلة. فقال إنه تعرّف في السجن إلى معظم القاصرين ممن يقضي كثيراً من وقته معهم، ويشغل نفسه بأعمال مختلفة حسب المهمات التي يُكلفه بها «الشاويش» (السجين المعين من قبل إدارة السجن للمساعدة في تنظيم السجناء)، ويذهب إلى النظارة لملاقاة «أولاد عم أبي، وهني 16 سجيناً جميعهم في الطابق السفلي».وجود هذا العدد من الأقارب في السجن يساعده على التأقلم ويعطيه شعوراً بالانتماء والقوّة والحماية داخل السجن، ما يؤكّد الاطمئنان النفسي الذي يعززه «لمّ الشمل» في السجن بالنسبة إلى القاصر وإلى عائلته، لأن وجوده ضمن جماعة متلاحمة يمنع أي تهديد أو اعتداء يمكن أن يتعرّض له.
و«لمّ الشمل» (المصطلح ليس مدرجاً في قانون العقوبات أو في مرسوم السجون) هو ببساطة طلب نقل السجين إلى قسم أو زنزانة يصادف وجود أحد أفراد عائلته أو عشيرته فيها. وبما أن السجن هو صورة مصغرة عن المجتمع، يمكن للنزيل أن يطلب نقله ليكون مع سجناء من المذهب أو الطائفة أو الجنسية نفسها.
فكيف يتكيّف السجين داخل السجن، وهل للعلاقات الاجتماعية (لمّ الشمل) دور مباشر في ذلك؟

عملية التكيّف في السجون
التكيّف هو مجموعة من ردود الفعل التي يسعى الفرد عبرها إلى إحداث توازن بين مطالبه وظروفه من جهة، ومطالب البيئة وظروفها من جهة أخرى بهدف خفض التوتر. تبدأ عملية التكيّف عندما يتم التعرّف إلى موقف يُحتمل أنه يشكّل تهديداً للسلامة الجسدية أو النفسية للفرد، ما يتطلب توجيه كامل الانتباه إليه. بعد ذلك تبدأ المرحلة الأولى، ويتم خلالها تقييم الموقف وما إذا كان الخطر حقيقياً أم لا، وهو تقييم مهم لتحديد الاستجابة، وتسمّى هذه العملية «التقييم الأولي» (Primary Appraisal). بعد تقييم الموقف على أنه تهديد، يدخل الفرد في المرحلة الثانية من عمليّة التكيّف وتسمّى «التقييم الثانوي» (Secondary Appraisal)، يقيّم خلالها الفرد موارده الخاصة، أي قدراته والخيارات المتاحة للاستجابة. وبعد الانتهاء من عمليتي التقييم يقارن نتائجهما التي تقع ما بين مدى خطورة الموقف وحدود استجابته وعمّا إذا كان يستطيع أن يتعامل معه بما يرضيه.
يُتوقع بعد ذلك أن يستجيب الشخص للوضع التهديدي بطريقة ما، وبطبيعة الحال سيختار ردّ فعله من بين مجموعة الإمكانات المتاحة له. لكن اختياره هنا سيعتمد بدرجة كبيرة على أكثر آلية تكيّف ذات فعالية مخزّنة في ذاكرته.
بناءً على هذا التعريف، يفترض تحديد المشكلات التي يواجهها السجناء داخل السجن والإجراءات التي يقومون بها لمواجهتها.

التكيّف والسلوك والتأقلم
أجرى الباحثان في علم الجريمة إدوارد زامبل وفرانك بوربورينو دراسة مثيرة للاهتمام بعنوان «التكيّف، السلوك والتأقلم لدى السجناء في السجون» في كندا، شملت عيّنة من 184 سجيناً. لفهم كيف يتأقلم السجناء مع بيئتهم، وكيف يتعاملون مع المشكلات التي تعترضهم داخل السجن وخارجه، والمقارنة بينهما.
هذه المقارنة هي السمة التي تميّز الدراسة. إذ من المتوقع أن يكون لتعامل السجناء مع معاناتهم خارج السجن تأثير مباشر على كيفية تعاملهم معها داخل السجن. لذلك، جمع الباحثان معلومات وافرة عن سلوك السجناء خارج السجن وخلفياتهم التاريخية ونمط حياتهم باعتبارها من العوامل التي تؤثر في طريقة تعاملهم مع الصعوبات، وكذلك عن سلوكهم داخل السجن، وإدراكهم للواقع وتعاملهم معه عبر إجراء مقابلات معهم.

السجين ليس من كوكب آخر
وقد أظهرت النتائج أن أنماط السلوك لدى السجناء خارج السجن قد تختلف عن الصورة النمطية التي يتوقعها الناس من المجرمين. على سبيل المثال، كان السجناء يقضون معظم أوقاتهم مع الأصدقاء أو في الانخراط في أنشطة سلبية مثل مشاهدة التلفزيون أو استخدام الهواتف الذكية، وهذا ينطبق على الموظفين منهم وغير الموظفين على حد سواء نظراً إلى عدم استقرار وظائفهم. إلى ذلك، يفتقد 83% منهم إلى مهارات التخطيط أو التنبؤ بوضعهم المستقبلي أو حتى وضع خطة واضحة للأهداف القريبة. ورغم قضاء معظم وقتهم في تكوين صداقات، إلّا أنها لم تكن عميقة، بل عابرة وسطحية.
المشكلات التي يواجهها السجناء خارج السجن ليست مختلفة كثيراً عن تلك التي يواجهها الأشخاص غير المحكومين، ولكنّ الفارق يكمن في استمراريتها بدلاً من أن تكون عابرة. فالخلافات بين الشركاء، وهي المشكلة الأكثر شيوعاً، كانت غالباً تعالج عن طريق تجنّب الصراع من دون حلّه. أمّا المشكلات التي تتعلق بالأهداف المستقبلية والعمل، فكانت الأقل شيوعاً، ما يثبت عدم اكتراثهم إلى ما لا يتعدّى اللحظة الحالية والتي كانت تواجه بما يعرف بالتدابير الملطفة، مثل الاستماع إلى الموسيقى أو المشي. وهي على كل حال جميعها يمكن أن تكون مفيدة، ولكنها لا تصلح مع المشكلات المعقدة أو الطويلة المدى والتي تتطلب مهارات حلّ المشكلات والتخطيط.
المشكلات وأساليب الاستجابة داخل السجن
بالمقارنة، وهي جوهر الدراسة مع مشكلات السجناء داخل السجن، ظهر أن أكثر المشكلات تكراراً في السجن كانت تتعلق بالفقد والاشتياق، إما لشخص ما، أو الحرية، أو ممارسة نشاط محدد. وللتخفيف من وطأة المشاعر السلبية التي تنجم عن الفقد، يلجأ السجناء عادة إلى كتابة رسائل كتعبير عن افتقادهم لأشخاص محدّدين، كما يعتمدون على الدعم الاجتماعي من زملائهم في السجن. استخدام هذه الآليات أمر لا مفرّ منه، لأن واقع السجن يفرض على السجناء مشكلات غير قابلة للحل، ولكن ما لوحظ في هذا الجزء تحديداً، أنّ نسبة ضئيلة جداً من السجناء كانت تعطي قسماً كبيراً من وقتها للتخطيط للحياة في الخارج وابتكار أساليب جديدة للتعامل مع واقع الحياة خارج السجن. أمّا بقيّة الأشخاص، فكانت طرق استجابتهم لمشكلات السجن فقط والتي لا تتعدّى كتابة رسالة أو الحديث مع سجين آخر من أجل عدم التفكير في المستقبل وعيش الحاضر بأقل ضرر نفسي ممكن.

طريق الانحراف
بعد استعراض النتائج، تبيّن أن هناك نمط حياة غير منظّم ومتراخ مشترك بين السجناء، وهو مرتبط في الوقت نفسه بضعف القدرة على التكيّف لديهم. وفسّر الباحثان ذلك بأن ضعف القدرة على التكيّف سينتج بالضرورة سلوكاً غير تكيفي، وهذا السلوك سيتجلى بطرق مختلفة. فبعضهم تظهر لديه أعراض أمراض عقلية أو نفسية ناتجة من الضغوط، خاصّة إذا لم يحصلوا على الدعم المناسب، بينما يختار البعض الآخر طريق الانحراف كوسيلة للتكيّف مع الظروف الصعبة.
أولاد عم أبي 16 سجيناً جميعهم في الطابق السفلي


فهل للعلاقات الاجتماعيّة دور في تكيّف الفرد داخل السجن؟ بناءً على نتائج الدراسة التي أظهرت أنّ أكبر نسبة من الوقت الذي يقضيه السجناء كانت تستثمر في العلاقات الاجتماعية وأنّ نسبة كبيرة من العينة كانت تعتمد على الدعم الاجتماعي كاستجابة تكيّف، يمكن الإجابة: نعم ممكن. ويعزّز ذلك في حالة القاصر هنا أنّ بقية السجناء كانوا يتجنّبون توسيع دائرة التحالف لديهم تفادياً للمشكلات والنزاعات، بينما في حالة القاصر لا حاجة إلى ذلك، لأنّ من هم في دائرة علاقاته هم أقاربه.

برامج تأهيلية لإنقاذ الأحداث
من المفترض تسليط الضوء على نتيجة مهمّة وردت في هذه الدراسة يمكن الاستفادة منها في السجون، وهي أنّ آليات التكيّف التي تمّ استخدامها من قبل السجناء في الداخل والخارج، أظهرت فعالية أكبر داخل السجن، يعود ذلك إلى محدودية المشكلات وضعف قدرتهم على الاستجابة كما شرحنا سابقاً، ما يعني أنّ السجن لم يُطوّر من قدرتهم على التكيّف، بل طوّع المكان ليناسب استجاباتهم، وبالتالي عندما يتم إطلاق سراحهم إلى العالم الخارجي حيث التحديات اللامحدودة، سيعاودون استخدام آليات التكيّف نفسها لأنهم يجهلون خلافها، ما سيؤدي إلى العودة إلى سلوكهم الإجرامي، وهكذا تبقى الحلقة مفرغة. من هنا، أهمية الالتفات إلى إخضاع السجناء لبرامج تدريب تعمل على تنمية آليّات التكيّف لديهم، وكذلك مهارات التخطيط وحل المشكلات وترفع من قدرتهم على التحمّل وتعلّمهم الاستجابات بطرق مناسبة. وهنا بعض الاقتراحات لبرنامج تأهيلي يمكن تنفيذه داخل السجن:
• التدريب على مهارات التواصل: تعلّم مهارات التواصل يساعد السجناء على التفاعل بشكل فعّال مع الآخرين ويحسّن جودة علاقاتهم الشخصيّة والاجتماعيّة.
• التدريب على إدارة الغضب والضغوط: تعليم السجناء كيفية التحكم في ردود أفعالهم والتفكير بشكل هادئ ومنطقي في مواجهة المواقف الصعبة.
• التخطيط للمستقبل: مساعدة السجناء في وضع أهداف قصيرة وطويلة المدى، ووضع خطط عمل واقعية لتحقيقها بما في ذلك التعليم والتدريب والتوظيف.
• تعلّم مهارات الحياة اليومية: لتمكين السجناء من تطوير المهارات اليومية التي يحتاجونها للتكيّف والنجاح بعد الإفراج مثل المهارات المالية، العناية الصحية، إدارة الوقت، الثقة بالنفس والمرونة النفسية... إلخ.
• التعلّم المستمر: تشجيع السجناء على مواصلة التعلّم وتطوير مهاراتهم حتى بعد الإفراج سواء عبر دورات تدريبية في السجن أو خارجه.