إليكم جرعة ساموراي. يا ترى ماذا يفعل المحارب الشريف عند ممات رفيق السلاح والقضية، أو عندما يتأذى أفراد قريته الأبرياء العُزّل من غطرسة عدوّه؟ يذرف دمعة من حرقة القلب تُلهب مُقلَتَه، ويجد إلهامه في ثوابت «بوشيدو» الأخلاقية الصارمة. أنا لا أتكلم عن ساموراي اليابان في القرن التاسع عشر. حديثنا عن فئة محاربي لبنان النبلاء، عن معانٍ أرستقراطيةٍ ما في سياق المقاومة، عن ساموراي لبنان اليوم... أبطال المقاومة اللبنانية الذين ينتصرون لمبادئ الولاء والتفاني والتضحية، ويحوّلونها إلى شراسة في الدفاع والانتقام للحق. على الرغم من فروقات الزمان والمكان والمعتقد، يتقاسم محاربو حزب الله في لبنان وساموراي اليابان الكثير من صفات الـ«بوشيدو». ربما أنني (كي لا أتهكّم على غيري) أتحلّى بالكاد بثلاثة ونصف منها في حياتي اليومية: ولاء، شرف، وفاء بالوعد، التزام، شجاعة، تضحية، إنصاف، استقامة، تسامح، احترام الرموز، تواضع، نبل، تقدير، صدق وامتنان.
الجيش الإسرائيلي يعرف جيداً معنى هذا الكلام نسبةً إلى محاربي المقاومة اليوم، كما خبرهم سابقاً في عام 2006 وما قبل التحرير في عام 2000. ساموراي اليابان وساموراي لبنان يتشاركان في مبدأ الولاء الشديد للقيادة والقضايا التي يدافعان عنها. في الحالة اللبنانية، الولاء يكون للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي والهجوم الداعشي، ودعم الشعب الفلسطيني.
تتحلى كلتا المجموعتين بتقاليد صارمة، حيث يتلقى مقاتلو المقاومة تدريباً عسكرياً في مواجهة الغزوات بفعالية فائقة كانت قد أخفقت جميع المجموعات اللبنانية السابقة في الارتقاء الى مستواه، بما فيها الجيش اللبناني الممنوع أميركياً تمويله بأكثر من «الوُكي توكي».
لدى الساموراي شجاعة واستعداد للتضحية من أجل القضية التي يؤمنون بها في ساحات المعركة، حيث يعرّضون حياتهم في مواجهة العدو لتحقيق الهدف. تعتمد كلتا المجموعتين على قيم ومبادئ في حياتهم اليومية وأعمالهم العسكرية. ينظر مقاتلو المقاومة إلى قِيَم الجهاد والإخلاص لقيادتهم وللأهداف الدينية والسياسية.
خلاصتي الصريحة أمام تلك السمات والقيم المثالية وصِفات الكمال، على الصعيد الشخصي، أنه لا يمكنني العيش اليومي عن قرب مع أفراد حزب الله في دائرة اجتماعية واحدة. ماذا يجمعني، فردياً واجتماعياً، بالساموراي في أسلوب العيش والتفكير والكلام وتدريب الروح والجسد؟ لا شيء تقريباً. فعلاً «ما بيشبهونا» (كما يتقيّأ بعض متطفّلي وطفيليّي السياسة في لبنان). مَن بين الناس العاديين يمكنه مؤازرة ومواكبة جبابرة في أسلوب حياتهم؟ ومَن هو قادر على التكيف مع شروط التفوق في فلسفة حياة وموت متعالية على دفتر تدريبي وأخلاقي سامٍ كمجموعة ساموراي لبنان؟ ومن قال إن متفوقي عقيدة القتال الياباني، أو أفراد إسبرطة المتقشفين بين الإغريق، أو متفوقي أي مجموعة عقائدية محترفة في الماضي والحاضر، مطلوب منهم أن يكونوا «همشريين» وشبيهين ببقية الشرائح الاجتماعية بين الناس؟ لو كانت نخبة الوحدات العسكرية البحرية «نِيْڤي سِيِل» الأميركية عادية مثلي مثلك، لما حكمت أميركا العالم أجمع منذ قرن. هم (أي الـ«نِيْڤي سِيِل») كما أبطالنا وأبطال بقية المجتمعات لا يلعبون بالشروط نفسها وبموازين حياة العاديين. هم لا يتقيّدون، بل لا يجب أن يتقيدوا بمتطلبات حياتك الاجتماعية وربطة عنقك وأركيلتك أو سفاهة تجار السياسة اللبنانيين (يلّي ما بيشبهوا حدا أصلاً إلا شخصيات مافيوية من «السوپرانوز» أو غدّاري اللوبي الصهيوني أو سياديي السفارات أو بائعي الشرف الوطني بأسعار سوق البترودولار).
لا شك أن حزب الله فشل داخلياً في المساعدة على تصحيح مسار الحَوْكمة منذ خوضه معترك السياسة في عام 2005. وما تضييع الفرصة لتحقيق إنجازات إصلاحية أرادها عهد الرئيس ميشال عون سوى تكملة للفشل الداخلي. الساموراي فاقد الصلاحية في العمل السياسي أو بناء الدولة. ما أضيق الحياة إن فقدوا الدَّور والتأثير الداخلي من هم على مستوى محبتنا وتقديرنا ومُثُلنا العليا، حتى لو ما زالوا بيننا على قيد الحياة كالعماد والسيد. وما أوجعها، في المقابل، أن يبقى على خناق رقابنا آخرون من هم دون الأمانة والاستقامة والبراءة. ما أضيقها أن نبقى وحيدين عُزّلاً بعد نضال أولئك المخلّصين الطويل الذين جابهوا العواصف دون رمشة عين واحدة. وما أنكدها أن يتابع فاسدو السياسة فسادهم وكأنّ شيئاً لم يكن.
كلما سمعت وحدّقت في أحد سياسيّي الحديقة العامة يتحدث عن دواء لشفاء بلدنا، يقودني سمعي وَثَباتُ عيني بعينه، رأساً إلى التعرّف إلى مسبّب الداء. كل تفوّه صياغي عن الفوضى التي يعاني منها البلد يقينٌ فوق يقين على ذنب المتكلِّم المشترك بالضرر الحاصل. عليك أن تفهم يا طربون حبق السياسة: أنت الداء لكنك لستَ الدواء. ضع هالة النبوة جانباً. أن تتوسط ربطة عنق في مقابلة تلفزيونية لا يجعلك أفضل من مناضلي الحزب الذين لك الشرف إن تمكنتَ أنت من التشبه بهم. معظم رجال ونساء مؤسساتنا السياسية خير دليل أن انعدام الكفاءة لا يشكل عائقاً أمام الزعامة، تماماً على عكس قواعد «بوشيدو».
قرنفل الحديقة السياسية ذوو الـ«ما بيشبهونا» ليسوا ضد تسليح المقاومة على الإطلاق. بالحقيقة، ودون تردّد، هم يؤيدون تسليح المقاومة وكل الشعب اللبناني، لكن بالهراوات، نظراً إلى فرادة العِصي في نزاع الأمم. مثلاً، هم وشريحة من الشعب الظريف يفضلون ممارسة التعذيب الدبلوماسي على سكان المستعمرات بتطبيل العِصي على التنك طوال الحدود. وما هي استراتيجيتهم العسكرية؟ بمقدور المقاوم التربّص جانب غرفة نوم الجندي الإسرائيلي، كي يصعق رأسه بالعصا حالما يتوجه الجندي المرَوْبص إلى الحمام لإراحة ضميره صباحاً. الهراوات بدل الصواريخ تعزز قدرات المقاومة على التسلل عبر الحدود دون تفعيل رادارات بطارية الپاتريوت، فتصبح كل مليارات الخزينة الأميركية للتكنولوجيا العسكرية عديمة الفائدة. إضافةً، إن مهارة أرجَحة العِصي دائرياً في الهواء تساعد المقاومين على المنافسة في مباريات البيسبول الأميركية، فننقل هزيمتنا، عفواً تفوقنا بالهراوات، إلى الداخل الأميركي كي نثبت أننا أيضاً مبدعون بالروح الرياضية كشعب مقاوم في السلم كما في الحرب. هكذا يريدون لنا أن نتحول إلى أمّة كاملة من مؤرجِحي الهراوات العظماء في العالم. تكتيكات الحكيم (يزيد حكمته) والوليد (شوفير تاكسي نيويورك) والنجيب (المواظب على أعماله الشخصية كجميع أسلافه) وسياديي السفارات تُعزز، أيضاً وأيضاً، الاقتصاد المحلي في صناعة العِصي الخشبية لتقوية الليرة؛ لماذا إخلال الميزان التجاري بالاعتماد على صادرات «الاحتلال» الإيراني الصاروخي؟ وما هو أكثر ما يمكن أن تفعله «أف-16» العدو... غارات على مخازن الخشب؟ أقصاها حريقة هنا أو هناك يطفئها مطر الغيوم حالاً، إلا إذا لبّصونا بحملة نيترات أمونيوم جديدة يخزّنها الأمن العام وقوى الأمن الداخلي والجيش استراتيجياً واستهتاراً في قبو معمل العِصي، بعِلم كل من الوزراء المختصّين والقضاة المسؤولين والرئيس النبيه على مجلس أمتنا والنواب.
إذا تكلم سقراط نظرياً عن مفهوم الملك-الفيلسوف في جمهورية أفلاطون، إذا كان الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس يمثل الملك-الفيلسوف على مذهب زينون الرواقي (صاحب الجذور الكنعانية)، وإذا كان الملك آرثر عبارة عن الفارس الإنكليزي الخيالي، فإن علي بن أبي طالب، شفيع المقاومة، يقف شامخاً بين قلة الفرسان-الفلاسفة الحقيقيين في تاريخ وحاضر الإنسانية. هو كامل النقاوة والجمال في الجوهر والمعنى والممارسة. كذلك هم ساموراي لبنان، تحتضنهم مريم العذراء بمحبتها وعطفها كما حموها بسواعدهم في قرية معلولا السورية وخلفها زينب في دمشق.
إليكم آخر جرعة من كأس الساموراي. يا ترى ماذا فعلت «تومو كوزين»، وهي من أبرع المحاربات في أفواج الساموراي، بعد ممات قائدها «ميناموتو نو يوشيناكا»؟ ربما لم تقل شيئاً عندما دمعت عيناها. لكن في حزنها عليه سخَّرت قواعد «بوشيدو» الأخلاقية الصارمة والمشرّبة بمبادئ الولاء والشرف والانضباط الذاتي. قدّمت شراسة على الجبهة للانتقام له، ساعية إلى أداء واجبها كوكيلة لقضيتهما المشتركة. هكذا تتعزز المجتمعات أمام الأخطار، كما الحال في لبنان وفلسطين.
أحياناً الدموع تتكلم دون حاجة الكلمات. وما أحوجنا إلى الدموع التي ذُرِفت على الزعيم صاحب كلمات «إن الحياة وقفة عزّ فقط».

*ناشر لبناني ومحرر سابق لمجلات أدبية وفنية