مواجهة انتخابية بين جو بايدن ودونالد ترامب، هي المشهد المرجّح في السباق الرئاسي القادم في الولايات المتحدة. المفارقة أن النزال المرتقب بين الرئيس الأميركي الحالي الذي أعلن ترشحه في نيسان الماضي، وسلفه الذي لا يزال يتقدّم في استطلاعات الرأي بفارق واسع عن أقرب منافسيه «الجمهوريين»، دونه عراقيل داخل الحاضنة الحزبية لكلّ منهما، إذ إن ترشّح الأول يلقى اعتراضات لجملة أسباب، أبرزها عامل السنّ، فيما تتوالى الاتهامات القضائية ضدّ الثاني على عدّة خلفيات. مع ذلك، يسعى بايدن لأن يكون أوّل رئيس يتخطّى عتبة 78 عاماً، وهو الرقم «العُمري» القياسي الذي سجّله الرئيس الأميركي الراحل، رونالد ريغان، بعد ولايتَين رئاسيتَين، في حين يطمح ترامب إلى أن يكون أوّل رئيس ينجح في العودة إلى السلطة بعد خروجه منها، وهو سبيلٌ سبقه إليه رؤساء سابقون من مثل جورج واشنطن، وثيودور روزفلت، وآخرين. الثابت، إلى الآن، أن «الديموقراطيين» في صدد مشهد لن يخلو من سيناريوات سيّئة، سواء في حال ترشيح بايدن أو عدمه، كون الخيار الأخير سيرتدّ سلباً على الصورة العامة للحزب أمام الجمهور الأميركي، فضلاً عما قد ينجم عنه من تفتّت لوحدته الداخلية، بينما ينطوي خيار الترشيح على خطر تقلّص حظوظه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ولا سيما في أوساط الناخبين المتردّدين.
«نقاش ديموقراطي»: نرشّح بايدن... لا نرشّحه!
بالحديث عن رئاسيات 2024، يتوقّف مراقبون عند نتائج الاستحقاق الذي سبقها، أي انتخابات التجديد النصفي للكونغرس أواخر عام 2022، والتي جاءت مغايرة لتوقّعات كانت تشير إلى اكتساح «الحزب الجمهوري» مقاعد الكونغرس بمجلسَيه، النواب والشيوخ. قبيل تلك الانتخابات، كان العديد من ساسة «الحزب الديموقراطي» ونخبه يتخوّفون من إمكانية تعرّضهم لهزيمة ساحقة، على وقع تراجع شعبية بايدن خلال العامين الأولين من عهدته الرئاسية، وكانوا في طور الاستعداد لمساءلة خيار حزبهم ترشيح الرجل لانتخابات 2024. ولكن مع انتهاء التجديد النصفي، ونجاح بايدن في قيادة «الديموقراطيين» إلى الاحتفاظ بأغلبيتهم في مجلس الشيوخ، على رغم انتقال الأغلبية في مجلس النواب إلى «الجمهوريين»، خفت صوت الداعين إلى النظر في تقديم «بدائل رئاسية» من بايدن، الذي تمكّن من تحسين ثقة الجمهور الأميركي بشكل عام، والقواعد الشعبية للحزب «الديموقراطي» بشكل خاص، عبر «تسويق» بعض إنجازاته، بخاصة في مجالات الرعاية الصحية والبنى التحتية وتشريعات ضبط ظاهرة اقتناء الأسلحة للجمهور الأميركي، وكسر الدعاية السياسية المضادّة لخصومه، بالاستعانة بإرث سلفه الذي جرى تصويره كـ«تهديد لقيم الديموقراطية». كما أن نجاحات بايدن، على مستوى السياسات الداخلية، توازيها نجاحات في مجال السياسة الخارجية لا تقلّ أهمية - حتى بات يوصف بـ«مهندس جهود الناتو» لدعم أوكرانيا خلال حربها مع روسيا -، جعلت مستوى تقييمه إيجاباً على هذا الصعيد، يقارب عتبة الخمسين في المئة.
في هذا السياق، تكشف صحيفة «نيويورك تايمز» عن حصيلة سلسلة من المقابلات التي أجريت مع أكثر من عشرين شخصية من «الحزب الديموقراطي»، ومفادها أن هؤلاء بات لديهم ميل أكبر إلى الإذعان لرغبة الرئيس، عوض التفكير في الصدام المباشر معه. وكان استطلاع للرأي أجرته صحيفة «USA Today» بالتعاون مع «IPSOS»، بعد أسابيع قليلة من انقضاء انتخابات التجديد النصفي، بيّن أن 71% من «الديموقراطيين» يعتقدون أن بايدن قادر على الفوز في انتخابات عام 2024، مقارنةً بـ60% فقط أعربوا عن آراء مشابهة قبل أشهر قليلة. وفضلاً عن نتائج الانتخابات، تشير أستاذة العلوم السياسية في جامعة ميريلاند الأميركية، مروة مَزيَد، إلى سبب إضافي لمواصلة «الديموقراطيين» حتى اليوم دعمهم لبايدن، وهو التزامه بـ«الأجندة التقدمية» التي يروّج لها الحزب، بما يجعل منه «واجهة مناسبة» لكسب السباق الرئاسي، في حال فوز ترامب بترشيح الجمهوريين، وذلك بالأدوات نفسها التي استُخدمت في عام 2020، خصوصاً أنهما متقاربان من حيث العمر، وأن ثمّة أملاً في أن يسهم انطلاق الحملة الرئاسية لبايدن في معالجة تدنّي شعبيته قبل حلول موعد الرئاسيات.
إزاء ذلك، يبدو مفهوماً ما تشيعه أوساط «الحزب الديموقراطي» حول التفكير في ما يجب القيام به لإنجاح حملة إعادة انتخاب بايدن، وشروع «اللجنة الوطنية» المنبثقة عن الحزب في جهودها لدعم الحملة، توازياً مع تكثيف المستشارين السياسيين للرئيس جهودهم لتفعيل قنوات التواصل مع كبار الداعمين والمموّلين، وتنظيم اجتماعات داخل البيت الأبيض بهدف مناقشة أجندة الإدارة استعداداً للانتخابات المقبلة. وعلى رغم ثبوت تأييد قيادات «ديموقراطية» وازنة ترشيح بايدن لولاية ثانية، بداعي الأصول الحزبية والأعراف المعمول بها في الحياة السياسية، ومن بين هؤلاء مثلاً النائب هنري كويلار، وهو أحد أكثر «الديموقراطيين» المحافظين في مجلس النواب، والنائبة ورئيسة «التجمع التقدمي» في الكونغرس براميلا غايابال، وعمدة مدينة كانساس بولاية ميسوري كوينتون لوكاس، إلّا أن ذلك لم يحجب أصداء النقاش الداخلي في أوساط «الديموقراطيين» في شأن مدى تقبّل الرأي العام مرشحاً رئاسياً ثمانينياً، يعاني مشكلات صحية (مصاب بالسرطان) قد تكون لها انعكاساتها السلبية على فرصه في الفوز.
الحديث عن ترشّح ميشيل أوباما لم يأتِ من فراغ، بالنظر إلى العلاقات الوطيدة التي تجمع بين الرئيس الحالي والرئيس «الديموقراطي» السابق


ويتبنّى هذه الهواجس خبير استطلاعات الرأي المخضرم، والمحسوب على «الديموقراطي»، ستانلي غرينبيرغ، الذي يشير إلى نقاط ضعف جوهرية في موقف حزبه قبل السباق الرئاسي المقبل، منها ما يتعلّق بموقف «الجمهوريين» حول قضايا المهاجرين وأمن الحدود، والتي تلقى رواجاً لدى قاعدة واسعة من الأميركيين، ومنها ما يتعلّق بعمر الرئيس، ولا سيما في حال رسا قادة «الجمهوري» على خيار ترشيح شخصية شابة أخرى، كرون ديسانتيس، وليس ترامب، البالغ من العمر 77 عاماً بدوره. وعلى رغم أن التقديرات تشير إلى أن جمهور «الديموقراطي»، ونخبه على حدّ سواء، حتى تلك التي تؤيّد ما تسمّيه «انتقالاً جيلياً» في صفوف الحزب، وفي طليعتها رئيسة «الديموقراطي» في ولاية نبراسكا، جاين كليب، لن يتردّدوا في حسم أمرهم بالتصويت لبايدن، في نهاية المطاف، في حال قرّرت القيادة الحزبية السير في ترشيحه، لا تزال نخب حزبية تحبّذ لو أن بايدن يفسح المجال أمام قيادات جديدة، ويحذو حذو رئيسة مجلس النواب السابقة، نانسي بيلوسي، حين قرّرت التنحي عن منصبها كزعيمة للأقلية «الديموقراطية» في مجلس النواب. وفي هذا الصدد، يلفت حاكم ولاية إلينوي، وأحد المموّلين التاريخيين لحملات «الديموقراطي»، جيبي بريتزكر، إلى أن احتمالات ترشّح وجوه جديدة بديلة لبايدن، مرهونة فقط بتخلّي الأخير عن خوض السباق الرئاسي، مؤكداً التزام كوادر الحزب بدعمه في الوقت الراهن.

مرشّحون محتملون... ماذا عن ميشيل أوباما؟
إلى الآن، كلّ الدلائل تشير إلى عدم نيّة بايدن التراجع عن طموحاته في ولاية ثانية. ومع ذلك، وبالتوازي مع استقرار نسبة الموافقة الإجمالية على سياسات الرئيس الحالي، بخاصة الاقتصادية منها، عند حدود لم تتجاوز 40%، وفقاً لأحدث استطلاعات الرأي، عاد الحديث عن احتمال قيام قيادة «الحزب الديموقراطي»، في مرحلة معينة، بدراسة خيار ترشيح أسماء أخرى بصورة جدّية، في حال لمست تراجع حظوظ مرشّحها الحالي. ومن بين الأسماء المطروحة ضمن ما سمّي «الخطة باء»، شخصيات مغمورة نسبياً مثل خبيرة المساعدة الذاتية ماريان ويليامسون، والناشط المناهض للقاحات روبرت كينيدي جونيور، وهو ابن شقيق الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي، وحتى نائبة الرئيس كامالا هاريس، إضافة إلى أسماء «ديموقراطية» أخرى لامعة وعلى رأسها النائبة إلهان عمر، والنائب عن ولاية كاليفورنيا رو خانا، والمحامية والأستاذة الجامعية ميشيل أوباما، زوجة الرئيس الأسبق باراك أوباما. وكانت رجّحت صحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية، مطلع الشهر الجاري، انسحاب بايدن قبل الانتخابات التمهيدية الأولى، مشيرة إلى أنه بحلول ذلك الوقت سيكون قد فات الأوان ليتقدّم مرشح من القاعدة الشعبية، وذو خبرة سياسية كالسيدة الأولى السابقة، خرّيجة كلية الحقوق في «هارفرد»، والتي نفت ما يشاع عن نيّة ترشّحها.
والواقع أن الحديث عن ترشّح ميشيل أوباما لم يأتِ من فراغ، بالنظر إلى العلاقات الوطيدة التي تجمع بين الرئيس الحالي والرئيس «الديموقراطي» السابق، وكثرة التقارير التي تفيد بأن 75% من طاقم الإدارة الحالية، عمل في إدارة أوباما. كما أن بايدن استعان بسلفه «الديموقراطي» خلال حملته الانتخابية الرئاسية عام 2020، وشارك وإياه في دعم حملات المرشحين «الديموقراطيين» في الولايات الأميركية في انتخابات عام 2022. ويرى محلّلون أن الرجلين يشكلان ثنائياً سياسياً رائعاً، ويكمّل أحدهما الآخر؛ إذ ليس باستطاعة بايدن مخاطبة بعض الفئات الاجتماعية، خلافاً لأوباما، والعكس صحيح، وهو ما أبرزه تبادل الأدوار بينهما خلال ولايتيهما الرئاسيتين، إلى جانب المزايا الخطابية المختلفة لكل منهما. هذه «التوأمة السياسية» توقّفت عندها صحيفة «واشنطن بوست» أخيراً، حين كشفت عن لقاء جمع أوباما ببايدن، في البيت الأبيض، بعيداً عن الإعلام، حيث وعد الأول صديقه القديم بأن يفعل كل ما في وسعه لدعمه، مقرّاً في الوقت نفسه بصعوبة المهمة.
ومن جملة أسباب الاستعانة بـ«الثقل السياسي والمعنوي» لعائلة أوباما أيضاً، التقارير عن خيبة أمل الأميركيين من أصول أفريقية من سياسات الإدارة الحالية، علماً أن هؤلاء لطالما شكّلوا رافداً أساسياً لـ«الحزب الديموقراطي» في الاستحقاقات الانتخابية، كما واضطلعوا بدور حاسم في ولاية جورجيا لحساب الحزب المذكور في الانتخابات الماضية. ومع أن ما حقّقه عهد بايدن لأبناء تلك الفئة من المجتمع الأميركي ليس باليسير، أقلّه بالاستناد إلى ما يشيعه البيت الأبيض، سواء على صعيد رفع معدّلات التوظيف في صفوف أبنائها، أو لناحية تعزيز شبكات الحماية الاجتماعية والخدمات التعليمية والصحية الدامجة لهم، وتعيين عدد كبير من القضاة السود في المحاكم فاق ما سُجّل في جميع العهود الرئاسية السابقة، إلّا أنه لا يزال قسم كبير من هؤلاء يشكُون تملّص الإدارة الحالية من وعود كثيرة التزمت بها خلال الحملة الانتخابية عام 2020، وعلى رأسها تحسين القوانين الجنائية والشُّرَطيّة المجحفة بحقهم، وعرقلة مساعي «الجمهوريين» لتقييد حقوقهم السياسية. في المقابل، يلحظ محلّلون أن مجتمع الأفارقة الأميركيين يميل تاريخياً إلى تأييد «الديموقراطيين»، بصرف النظر عن هوية المرشح وما أنجزه، نظراً إلى السياسات اليمينية المتطرّفة التي طبعت عهود «الجمهوريين»، وهو ما يدلّ عليه تراجع نسب التصويت لـ«الديموقراطي» في الانتخابات الأخيرة في أوساطهم بنسبة 1% فقط، رغم عدم رضاهم عن «العهد». أمام هذا، يبدو أن قرار «الديموقراطي» بخصوص مرشحه الرئاسي، سيأخذ في الاعتبار عامل تصويت الأقليات، ولا سيما الأميركيين من أصول أفريقية، ما سيعني بقاء اسم ميشيل أوباما في التداول إلى حين.